مجلس الانتقال المنقوص

 

تشكّل في 5 تشرين الأول/ أكتوبر أول برلمان بعد سقوط النظام الأسد، في “انتخابات” جرى التسويق لها باعتبارها “الانتخابات الحرّة الأولى منذ 6 عقود”، على الرغم من أنَّ الانتخابات البرلمانيّة التي كانت تجري سابقًا كانت بطريقة الانتخاب المباشر، اختارت السلطة هذه المرة أنْ “تنتخب هيئات مناطقية شكّلتها لجنة عليا عيّن الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع أعضاءها، ثلثي أعضاء المجلس البالغ عددهم 210، على أن يعيّن الرئيس الثلث الباقي”.

في حين أنَّ الآلية الانتخابيّة بُررت بالـ”افتقار إلى بيانات موثوقة للسكان وبعد نزوح ملايين السوريين بسبب الحرب”، فإنَّ “الافتقار إلى بيانات موثوقة” و”نزوح ملايين السوريين” لم يقفا حائلًا دون تحديد مهمة هذا المجلس بوضع دستور دائم للبلاد في نهاية فترته الانتقالية المحددة بـ”30 شهرًا قابلة للتجديد”. كما أنَّ هذا البرلمان تشكّل منقوصًا، إذ أعلنت اللجنة العليا للانتخابات أسماء 119 عضوًا، دون أنْ يشمل الأعضاء ممثلين عن محافظات السويداء والرقة والحسكة، التي سوف يمثلها 21 عضوًا في انتخابات “تُستكمل لاحقًا بقرار رئاسي”.

الشرعيّة والمسار

يشير تشكيل مجلس الشعب منقوصًا، من ضمن مؤشرات أخرى، إلى خلل بنيويّ واضح في أنَّ هذا التشكيل، أو هذه “الانتخابات”، لم يجرِ وفقًا لإجماع وطنيّ حقّ، أو بناءً على قرارات مؤتمر وطنيّ جامع. فالشرعيّة التي يستند إليها المسار الانتقاليّ جرت بالكامل من طرف السلطة من دون مشاركة فئات عديدة من المجتمع السوريّ، بدايّة من مؤتمريّ “النصر” و”الحوار الوطنيّ”، وصولًا إلى الإعلان الدستوريّ وتشكيل الحكومة ومجلس الشعب.

تصبح المراحل الانتقاليّة هشة وعرضة إلى مخاطر النزعات الانفصاليّة والعنف المستمر، لا سيّما في سياق منهك ومفتت مثل السياق السوريّ، إن لم تقم على منطق توافقيّ بين القوى السياسيّة والمدنية الفاعلة، ولم يجرِ إشراك شريحة واسعة من القوى السياسيّة والمدنيّة وتمثيلها فيها. فعادةً ما تتخذ الحكومات في التجارب الانتقاليّة مسارات إصلاحيّة قبل إجراء الانتخابات البرلمانية. تتفرع هذه المسارات إلى سياسيّ، إذ تجري انتخابات بناءً على توافق بين أطراف متنازعة؛ ومسار أمنيّ، يتطلب وضع آليات واضعة لنزع سلاح الأطراف المسلّحة كلّها وتسريح مقاتليها وإعادة إدماجهم؛ ومسار دستوريّ، يقوم على استشارات شعبيّة حقيقيّة، أي حوار وطنيّ حقيقيّ وله صلاحيات فعليّة.

في حين أنَّ الانتقال الديمقراطيّ يستلزم تفعيل حراك سياسيّ يتيح مشاركة الأحزاب التي كانت محظورة، ورفع القيود السلطويّة على حرية تشكيل الأحزاب والتجمّع، فإنَّ القرارات الوحيدة التي اتخذتها السلطة القائمة فيما يتعلّق بالهيئات والأحزاب السياسيّة كانت الدعوة إلى حلّها في حالة الهيئات، كما جرى مع هيئة التفاوض والائتلاف الوطنيّ، أو رفض التعامل مع أيّ تنظيمات بوصفها كذلك، فاقتصر التعامل مع أفراد منهم بصفتهم يمثلون أنفسهم لا غير.

تظلّ الشرعيّة القائمة إلى الآن شرعيّة “غلبة”، تقيّدها الجهات التي يستمد منها الحُكم الحالي شرعيته وسلطته -الفصائل المسلّحة- وتقودها سرديّة لا تنطوي على أيّ اعتراف بتراكم النضالات السياسيّة على مرّ عقود حُكم الأسدين، ودفع مناضلون ثمنها من أعمارهم وأرواحهم لسنوات مديدة.

مواطنون أم مكونات؟

في المؤتمر الصحفي الذي أعلن خلاله المتحدث باسم اللجنة العليا للانتخابات، نوار نجمة، أسماء الفائزين عبّر عن ملاحظته بأنَّ “بعض المكونات لم تُمثّل حسب نسبتها في مجلس الشعب ويُمكن لثلث رئيس الجمهوريّة أنْ يعوّض هذا التمثيل”، قبل أنْ يتابع لينفي وجود “محاصصة” ويشدد على أنَّ كلّ عضو في المجلس “يمثّل كلّ المجتمع السوريّ بغض النظر عن انتمائه الطائفيّ أو العرقيّ”.

يخلط السيد نجمة في تعليقه، بين منطقين في السياسة، هما منطق المواطنة المتساوية ومنطق المكوّنات، فهل نحن أمام مجلس يمثّل السوريين على اختلافهم وتنوّعهم بغض النظر عن هويات النسب والانتساب لديهم، أم أنَّنا أمام مجلس لكلّ جماعة، سواءً كانت قوميّة أو دينيّة أو طائفيّة، حصة فيه؟ لكن رئيس اللجنة العليا للانتخابات، محمد طه الأحمد، تحدث صراحةً عن اعتزام اللجنة رفع توصية إلى الرئيس المؤقت بشأن “تعزيز تمثيل النساء ]البالغة نسبتهن إلى الآن 4%[ والأقليات في الاستحقاقات الانتخابيّة المقبلة”، بما يعكس “تنوّع المجتمع السوريّ ويعزز الشمول السياسيّ”. يتضافر هذا الحديث عن “التنوّع” و”الشمول” مع خلط المتحدث باسم اللجنة بين منطقي المواطنة المتساوية والمكوّنات، ليصبح أقرب إلى مفهوم المحاصصة وخطابها.

غير أنَّ الواضح والمشترك في كلام عضوي اللجنة العليا للانتخابات العودة إلى منطق “القائد الأب” الذي يتولى بنفسه تصويب أخطاء “أبنائه” أو “يداري عيوبهم” أمام الناس، بدلًا من أنْ تكون المرحلة الحالية هي مرحلة تأسيس لنظام يختلف اختلافًا جوهريًا عمّا سبقه، نظام يعي جيدًا عذابات السوريين وآلامهم على مدار عقود، والأهم، نظام عرف بدقة منبت تلك العذابات والآلام.

المسار المعيب

في النتيجة، مع غياب الأطر الزمنيّة المحددة والواضحة للمرحلة الحالية، وعدم حصر مهام السلطات القائمة، وإصدارها قوانين وقرارات طويلة الأمد، فقد يؤدي تشكيل هذا البرلمان، ضمن هذا المسار الانتقاليّ المشوّه، إلى تعميق الانقسامات القائمة أو تكريسها، بدلًا من أنْ يكون تشكيل البرلمان هو خطوة انتقاليّة حقيقيّة من نظام إلى آخر.

ليس المجلس المشكّل منقوصًا سوى عرضًا من أعراض عديدة لخلل هو نزوع نحو التفرّد بالحُكم ومحاولة أداء دور “القائد” الحكيم الذي سوف يملأ ثغرات هذا المجلس بدلًا من التأسيس لنظام بديل يقوم على التوافق بين السوريين بوصفهم كذلك، لا بوصفهم قوميات وطوائف وملل، بحيث يشكّلون مجلسًا يعبّر حقًا عن إراداتهم وأحلامهم لا رجعة فيها إلى ما مضى.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *