
انقسام كبير تشهده الجالية السورية في الولايات المتحدة من بعد زيارة رئيس سلطة الامر الواقع (السلطة الانتقالية) ، أحمد الشرع، إلى الولايات المتحدة. فقد خرجت المظاهرات المؤيدة للزيارة والأخرى المعارضة لها في نيويورك أمام مقر الأمم المتحدة. وشهدت هذه المظاهرات شحناً شعبياً وصل بالبعض إلى ما يسمى بالتحقير الرمزي (symbolic degradation) أو خطاب الإقصاء أو الخطاب العدائي (hostile discourse). فقد رأينا في مقاطع الفيديو التي تم تصويرها، فيديو لشاب يحمل “دلّة” قهوة ومعها فنجان، كتحقير رمزي للعشائر العربية. حيث كان قد ظهر سابقاً مجموعة من شيوخ العشائر في فيديو مصور وهم يرمون “دلّة” القهوة على الأرض مقسمين على ألا يعودوا لشربها إلا بعد انتصارهم في السويداء. وفي الوقت ذاته شاهدنا في فيديو آخر الكثير ممن كانوا يلوحون بأيديهم وهم يشيرون بالسبابة والوسطى بحركة “مقص الشاربين” كتحقير رمزي يستهدف أهالي السويداء الذين يعتبرون الشاربين رمزاً للشرف والكرامة. الملفت للنظر هو التركيز الكبير الذي شهدناه على مواقع التواصل الاجتماعي والذي انصب على طفلة صغيرة ظهرت في الفيديو وهي تحقر الآخر بإشارة المقص. حيث انتشرت صورها مع ذكر عبارات إما تحاول إدانتها وعائلتها أو تحاول تبرئتها وتضع اللوم فقط على جهل الأهل بأصول التربية التي زرعت فيها هذا الحقد والطائفية وخطاب التحقير والإقصاء. وما عزز الرأي الأول، لاحقاً، هو انتشار مقطع فيديو يظهر فيه أهل الطفلة وهم يفتخرون بفعلة ابنتهم.
ما يلفت الانتباه حقيقة هو تركيز الأغلبية على نقد الجانب التربوي للطفلة ووضع اللوم كله على تربية الأهل وترك نقد خطاب الكراهية الموجود والمُعزز حالياً. فمن وجهة نظري، الأهل لا يلامون بقدر ما تلام “دولة الأسد” التي خلقت هذه التناقضات واستخدمتها لتعزيز بسط سيطرتها، أولاً، ومن ثم السلطة الانتقالية الحالية التي عززت هذه التناقضات وما زالت تستخدمها، ثانياً. فالمسألة ليست مسألة تربوية بقدر ما هي مسألة توعوية يجب أن تفرض من قبل جهاز الدولة أو السلطة الانتقالية حالياً. يعني إذا ما تم تربية هذه الطفلة بشكل مغاير فهل سنقضي على خطاب الكراهية والتحريض والتحقير الناتج عن التعزيز المستمر لتلك التناقضات المجتمعية؟! إننا هنا كمن يترك ما هو عام ومُسبب ويلهث وراء حالة خاصة وهي نتيجة. أي نلوم المجتمع العائلي ولا نلوم المجتمع السياسي الاشمل.
- فيما يتعلق بالطفلة:
من الناحية النفسية فإن الطفل ما دون سن المراهقة قد يعمد إلى القيام بإشارات تعتبر رمزاً للقوة والتفوق لتعزيز شخصيته سواء أوعي لمعناها أم لم يعِ. وإذا كانت هذه الإشارة تعتبر دلالة على الانتماء للـ “نحن” مقابل الـ “هم” فقد يكون القيام بها تعزيز الانتماء للجماعة وبالتالي تعزيز الشخصية أيضاً، لكن بشكل مشوه وخاطئ. تلك الفتاة لا تلام فعلياً بالرغم من أنها بحركتها هذه أعادت انتاج خطاب الكراهية سواء أوعت ذلك أم لم تعِ.
- جهل الأهل بأصول التربية الصحيحة:
في كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” يتحدث برهان غليون عن وهم أسطورة “جهل الشعب”، أو كما تقال باللهجة المحكية في سورية “شعب جحش ما بيلبقلو شي”. ويعزو سبب انتشار هذه الإيديولوجية، عند الطبقة الوسطى (البورجوازية)، إلى ما قامت به “دولة الأسد” سابقاً عندما عملت على تضخيم تلك الطبقة على حساب الطبقات الأدنى. حيث بات بإمكان أبناء تلك الطبقة الحصول على تعليم جيد وبات هناك إمكانية بالنسبة للبعض أن يسافروا لإتمام تعليمهم في الخارج وذلك إما بتمويل شخصي أو عن طريق “دولة الأسد” ذاتها. ومن ثم قامت الدولة بتعميم إيديولوجيا “الشعب الجاهل” الذي لا يمكن أن يقوم بأي تغيير بسبب جهله. فأصبحت هذه الأسطورة الوهمية جزء من الإيديولوجية الخاصة بهذه الطبقة (البورجوازية) والتي من خلالها تضمن تميزها عن “الشعب الجاهل” والبقاء بعيدة عنه (المقصود بالشعب الجاهل ها هنا هي الطبقة الدنيا التي لم تمكنها ظروفها من الحصول على تعليم جيد). وبهذا الشكل ساهمت تلك الطبقة الوسطى (البورجوازية) بتكريس الوضع القائم وإبقائه على حاله. وعليه فقد تحولت معارضتها للنظام إلى مجرد معارضة إصلاحية فقط. وأخيراً يوضح غليون أن مهمة مكافحة الجهل، أولاً وأخيراً، هي مهمة مؤسسات الدولة الإيديولوجية وليست من مهام الشعب، والشعب لا يكون جاهلاً إلا لأن هناك دولة تسعى إلى تجهيله واستغلال جهله. فالشعب غير قادر على تحصيل الوعي المغاير بشكل ذاتي أو تلقائي. وعليه فإننا حتى لا نلوم العائلة، فما تربية الأطفال إلا نتيجة لتعزيز التناقضات وتكريسها في سورية “الجديدة”.
اليوم مع سلطة الامر الواقع (السلطة الانتقالية) في سورية، ومن خلال التعليقات على ذلك الفيديو، أرى أن الطبقة الوسطى البورجوازية في سورية ما زالت تحمل نفس الأيديولوجية الواهمة “جهل الشعب”. سواء أكان ممكناً لوم تلك الفتاة أم لا، وسواء أكان ممكناً لوم عائلتها أم لا، يبقى اللوم أولا وأخيراً على سلطة الامر الواقع التي تتهاون وتهادن من يعزز ويستخدم تلك التناقضات ويحرض على استخدام خطاب الكراهية والتحقير دون أن تسعى لتقديم وتعزيز وعي مغاير يكرس مفاهيم المواطنة والدولة الديمقراطية والمدنية والحداثة.

شكراً لك