من يُسلّح يُقرّر

إن المساعدات الخارجية هي أسلوب تحافظ بواسطته الولايات المتحدة على مركز النفوذ والهيمنة في أنحاء العالم، وتدعم عدداً كبيراً من البلاد التي كان لا بد أن تنهار أو تنتقل إلى الكتلة الشيوعية من خطاب رئيس الولايات المتحدة جون ف.كينيدي أمام النادي الاقتصادي في نيويورك 1962. تعتبر المساعدات الخارجية الأميركية، بنوعيها الاقتصادي والعسكري، إحدى وسائل السيطرة والهيمنة الهامة في العالم ككل. فعدا عن كونها رشوة تقدم للطبقات الحاكمة في البلدان المتخلفة من أجل تنفيذ أوامر الولايات المتحدة، وعدا عن كونها وسيلة مباشرة للتهديد، كما شهدناها مؤخراً عندما هددت الولايات المتحدة كل من مصر والأردن بقطع المساعدات في حال عدم قبول تهجير الفلسطينيين من غزة، فإن للمساعدات الخارجية آثارها غير المباشرة والتي لا تقل أهمية عن الأولى (هاري ماجدوف، عصر الإمبريالية) فيما يتعلق بالمساعدات العسكرية فسنأخذ مثالاً للتوضيح: عندما تقوم الولايات المتحدة بتقديم طائرات F16 مجاناً لدولة ما، وتقوم بتدريب الضباط على قيادة هذه الطائرات، فهي تضمن أن أكاديمية الطيران العسكري بعلومها وعتادها في ذلك البلد باتت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجيش الولايات المتحدة. هذا وتعتبر عملية تدريب الضباط الأجانب في الولايات المتحدة بمثابة تشكيل صداقة مع ضباط يمكن اعتبارهم مشاريع جنرالات في المستقبل ويمكن أن يتم التعامل معهم. أي أن عمليات التدريب هي عمليات استثمار تجنى مكاسبها في المستقبل أيضاً. كما أن المساعدات العسكرية تمثل احتمالاً لتحقيق الربح لشركات الصناعات العسكرية وذلك في حال تم استبدال الطائرة بأخرى جديدة، أو في حال تم طلب قطع غيار أيضاً، أو حتى في حال قررت تلك الدولة تطوير سلاح الجو وشراء جيل جديد من الطائرات.
  • مصر نموذجاً
من بعد ما سبق يمكننا القول أن هذه المساعدات ليست بريئة على الإطلاق، بل هدفها الرئيس هو فرض الهيمنة والسيطرة والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الممنوحة. وخير مثال على ذلك ما حصل في مصر في سبعينيات القرن الماضي. فقد كان الجيش المصري، جيش جمال عبد الناصر إذا جاز التعبير، يعتمد وبشكل كبير على الأسلحة السوفيتية – ولا بد لنا من الذكر ولو بشكل سريع أن هبات المعسكر الاشتراكي تختلف جذرياً عن هبات المعسكر الرأسمالي للدول المتخلفة – ولكن بعد استلام أنور السادات للحكم حدث تحول جذري في مصادر تسليح الجيش المصري نحو المعسكر الرأسمالي الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة. فبعد حرب أكتوبر عام 1973 قرر السادات الانفتاح على المعسكر الرأسمالي الامبريالي الغربي. ليعلن بعدها (1976) قطع العلاقات مع الاتحاد السوفييتي وإلغاء معاهدة الصداقة. ليقوم بعدها بالتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد (1978) ومن ثم توقيع اتفاقية السلام مع اسرائيل (1979) ليفتح الباب واسعاً للتعاون العسكري مع الولايات المتحدة وإجراء صفقة “الأرض مقابل السلام”، و”السلام مقابل السلاح” للحصول على المنح العسكرية التي تقدر بـ 1،3 مليار دولار سنوياً. ومن ثم بدأت رحلة التسليح عام 1980 لتستمر عشر سنوات، لتبدأ رحلة التطوير المحدود التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، اليوم الذي تُرغم فيه مصر على القبول بتهجير فلسطينيي غزة دون أن ننفي، للأمانة، الهامش السياسي الذي يمكن من خلاله لمصر الرفض. وللأمانة أيضاً فقد قامت مصر مؤخراً بتنويع مصادر السلاح وباتت تشتري من الصين وروسيا وفرنسا.
  • أسئلة حول سورية مستقبلاً
إن صراع الهيمنة على سورية اليوم بين حلفين هما “حلف ابراهم”، بقيادة اسرائيل ومن خلفها الإمارات ومصر والسعودية، وحلف الإخوان المسلمين بقيادة تركيا ومن خلفها قطر. وهذا الصراع سيؤثر حتماً على هوية من يسلّح الجيش الجديد المزمع تشكيله. فمن بعد كل الغارات الاسرائيلية التي استهدفت ترسانة السلاح السوري الجوي والبحري والبري (تخيلوا أن الغارات وصلت إلى حد استهداف الدبابات)، السوفييتية المصدر، ومن بعد طلب الولايات المتحدة من الحكام الجدد في دمشق تدمير ما تبقى، يبقى السؤال مفتوحاً حول “المصدر الجديد”. فكما رأينا في متن المقال أن من سيقوم بتقديم المساعدات العسكرية سيكون له هيمنة كبرى على سورية. وحتى الآن تشير المعلومات والاتفاقيات بين حكومة دمشق الانتقالية والجانب التركي على أن تركيا ستكون المصدر الجديد. هذا بالرغم من أنها تعتمد على الولايات المتحدة وألمانية وروسيا في تسليح جيشها (مقاتلات F16 أميركية، دبابات Leopard 2A4 ألمانية، صواريخ S-400 روسية، وبعض الأنظمة مثل المحركات والمقاتلات المتطورة لا تزال تعتمد على التكنولوجيا الغربية) أما التصنيع العسكري المحلي، أو الأجنبي المطور في تركيا، فتتراوح نسبته من 70 إلى 80 بالمئة وتشمل الأسلحة الفردية والدبابات والفرقاطات… إلخ. ولكن هل ستقبل اسرائيل والولايات المتحدة من خلفها بذلك، خصوصاً بعد الغارات الاسرائيلية التي استهدفت المطارات والبنى التحتية التي كان من المزمع استخدامها من قبل تركيا؟ تركيا التي تسعى لفرض الهيمنة على سورية. فما الذي يمنع الولايات المتحدة من أن تزيح تركيا وتقوم هي بتسليح “الجيش السوري” المزمع تشكيله لتكون الهيمنة أميركية؟ أما بالنسبة للجانب الروسي فلم تحمل زيارة وزير الدفاع “أبو قصرة” إلى موسكو إلا تطلعات للتعاون العسكري مستقبلاً دون وجود أي اتفاقيات مبرمة. وعلى ما يبدو أن روسيا تقف موقفاً حيادياً من هذا الصراع ولربما تقوم بالتنسيق والتهدئة ما بين الطرفين. لسنا عرّافات لنتنبأ بالمستقبل ولكن ما يمكن التأكيد عليه، ومهما حصل في المستقبل، أن من يُسلّح هو الذي يقرّر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *