حول مشكل الأقليات وخصوصيته ضمن السياق السوري
المزيد
الإقالات التعسفية من الوظائف الحاصلة حالياً في سوري
المزيد
المشهد السوري بعد سقوط النظام: خارطة النفوذ والتمثيل في الحكومة الانتقالية
المزيد
مع إعلان تشكيل الحكومة السورية الانتقالية في مارس 2025، دخلت سوريا مرحلة جديدة من إعادة ترتيب القوى داخل البلاد. وبينما أُسقط النظام الحاكم عسكريًا وسياسيًا، لم يتم تفكيك البنى العميقة للنزاع، بل أعادت التوازنات المحلية والإقليمية إنتاج نفسها ضمن أطر جديدة. يتضح من تشكيل الحكومة وتوزيع المناصب ومنابع التأثير أن الصراع السوري لم ينتهِ، بل انتقل إلى طور مختلف: طور النفوذ السياسي المقنّع والتمثيل الوظيفي للقوى المسلحة والمدنية.
أولًا: حكومة موجّهة للخارج لا الداخل
تشير تركيبة الحكومة بوضوح إلى أنها صُمّمت أكثر لإرضاء المانحين والداعمين الإقليميين والدوليين، لا لعكس الإرادة الشعبية داخل سوريا. من جهة، تم استرضاء تركيا عبر تمثيل واسع لشخصيات محسوبة على نفوذها المباشر أو غير المباشر (مثل HTS). ومن جهة أخرى، حاولت الحكومة إظهار “شمولية شكلية” من خلال ضم وزراء ينتمون إلى أقليات عرقية ودينية (مثل الدروز والمسيحيين)، رغم غياب الوزن السياسي الحقيقي لهذه الشخصيات.
في المقابل، تم استبعاد معظم القوى السياسية والمدنية السورية الفاعلة، خاصة من الداخل، الأمر الذي أثار رفضًا واحتجاجًا علنيًا من قوى معارضة وناشطين رأوا في الحكومة خطوة لتكريس التفرّد لا للتشاركية.
ثانيًا: تأخير وإرباك في التشكيل
أُعلن عن التشكيلة بعد تأخير ملحوظ، إذ كان من المتوقع صدورها في أول آذار 2025، لكنها لم تُعلَن حتى نهاية الشهر. خلال هذه الفترة، تسرّبت معلومات عن رفض عدد من الشخصيات المعروفة تولي مناصب وزارية، وهو ما يعكس حالة من الإرباك وفقدان التوافق حتى داخل الدوائر القريبة من الحكومة.
ثالثًا: سيطرة هيئة تحرير الشام على مفاصل الدولة السيادية
تُعد هيئة تحرير الشام (HTS)، التي نشأت عن جبهة النصرة، الفاعل الأكثر تأثيرًا في الحكومة الجديدة، رغم محاولاتها الظهور بوجه مدني. الهيمنة تتجلى في الحقائب السيادية، حيث تولى منتمون للهيئة أو محسوبون عليها وزارات الدفاع، والداخلية، والعدل، بالإضافة إلى وزارة الخارجية التي أسندت لأسعد الشيباني، مؤسس حكومة الإنقاذ وعديل قائد الهيئة أبو محمد الجولاني.
كما أن وزير الإعلام حمزة مصطفى، رغم خلفيته الأكاديمية، محسوب على محور الدعم القطري والتركي، ما يجعله ضمن الفضاء السياسي المتقاطع مع الهيئة. وبذلك، تحتكر HTS فعليًا 5 من أصل 6 وزارات سيادية، أي ما نسبته 83.3% من المفاصل الحاكمة في البلاد.
وهكذا، فإن المناصب السيادية محجوزة لقوة عسكرية أيديولوجية، بينما يُلقى بالتكنوقراط في الوزارات الخدمية، ما يكرّس مبدأ السيطرة لا التخصص.
رابعًا: غياب تحالفات مدنية وطنية فعلية
رغم الطموحات التي طرحتها تيارات مدنية مثل تحالف تماسك، إلا أن هذا التيار لم يحظَ بأي تمثيل رسمي في الحكومة. وبعد تدقيق السير الذاتية للوزراء، لم يظهر أي وزير وقع على البيان التأسيسي أو كان جزءًا من الهيكل التنظيمي لهذا التحالف، ما يشير إلى غياب القوى المدنية المنظمة، رغم الحضور التكنوقراطي لبعض الشخصيات.
واللافت أن الحكومة الجديدة، بتشكيلها الحالي، تُقرأ دوليًا كاستجابة مشوهة لمطالب تنفيذ القرار الأممي 2254.
ويبدو أن هذه النسخة المختزلة – والتي تفتقر إلى الشمولية الوطنية – قد حصلت على قبول دولي مبدئي، أو على الأقل فُهمت على أنها بابٌ ضيقٌ للإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة مع السلطات الجديدة في دمشق، بدلًا من الانخراط في فراغ سياسي قد تُملأه جهات راديكالية أو فوضوية.
لكن هذه القناة الدولية تبقى محفوفة بالتردد؛ إذ عبّرت عواصم غربية عن قلقها العميق من هيمنة فصائل متشددة، ولا سيما الأجنبية منها، على القرار السياسي في شمال سوريا، محذّرة من أن هذا الواقع يُهدد الأمن الإقليمي والدولي، ويُبدد أي أمل في خلق بيئة آمنة لعودة اللاجئين السوريين – وهي المشكلة الأكثر إلحاحًا لأوروبا.
شرعية هذه الحكومة نفسها لا تقف على أسس وطنية متينة.
فهي تستمد شرعيتها الشكلية من “مؤتمر النصر” الذي نصب أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية، ومن “مؤتمر الحوار الوطني” – وكلا المؤتمرين يفتقران إلى الشرعية الشعبية والسياسية، ولم يشارَك فيهما ممثلون حقيقيون عن أطياف المجتمع السوري.
وبالتالي، ما بُني عليهما ليس إلا سلطة أمر واقع، تمتلك أدوات إدارة لا أدوات تمثيل. وهذا ينسحب على الحكومة التي نشأت عن هذه المنظومة: ليست حكومة شرعية وطنية، بل حكومة نفوذ محلي مؤقت.
باختصار، هذه ليست حكومة إنقاذ للسوريين، بل حكومة إنقاذ للسلطة الحاكمة.
خامسًا: النفوذ القطري–التركي الناعم
التمويل السياسي والإعلامي القادم من قطر وتركيا ظهر بوضوح في تمثيل ثلاث وزارات: الإعلام، الثقافة، والأوقاف. شخصيات مثل محمد صالح (الجزيرة القطرية سابقًا) ومحمد أبو الخير شكري (عضو الائتلاف الوطني المقيم في تركيا) تعكس مدى تغلغل هذا المحور في الشق الإعلامي والديني، وهو نفوذ غير مباشر لكنه حاضر في صياغة الرؤية العامة للحكومة.
سادسًا: غياب الجنوب السوري وتمثيل هش للساحل والبادية
درعا وحوران
رغم أن درعا كانت مهد الثورة السورية، فإنها غائبة تمامًا عن التمثيل الوزاري. لا يوجد أي وزير ينحدر من الجنوب أو يمثل حراكه الاجتماعي والسياسي، وهو مؤشر على استمرار التهميش المناطقي حتى في مرحلة ما بعد الأسد.
السويداء
تم تمثيل السويداء عبر وزير الزراعة (أمجد بدر)، وهو تمثيل رمزي لا يعكس قوة الحراك المدني المحلي الذي تقوده مجموعات مثل رجال الكرامة. الحضور ضعيف وغير مؤسسي.
الساحل السوري
اللاذقية وطرطوس، معقل النظام السابق، لم تشهدا تمثيلًا يُذكر سوى في حالة يعرب بدر (وزير النقل)، الذي رغم انحداره الجغرافي، لا يُمثل القوى التقليدية في المنطقة بل تيارًا تكنوقراطيًا خارجيًا.
المحصلة: التوزع الجغرافي كان حاضرًا – لكن التوزع السياسي كان غائبًا.
سابعًا: قسد خارج المعادلة
قوات سوريا الديمقراطية (SDF) ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد) غُيبوا بالكامل من الحكومة، رغم سيطرتهم الفعلية على نحو ثلث الأراضي السورية. هذه المقاطعة السياسية المتبادلة تعمّق الانقسام الجغرافي والإداري، وتخلق نظامين متوازيين في الشرق والشمال الغربي.
ثامنًا: تركيبة الحكومة
- الخلفية الأكاديمية:
o 17 وزيرًا تتطابق خلفيتهم الأكاديمية مع مناصبهم، وهو أمر إيجابي من حيث الكفاءة.
- الخلفية الإسلامية:
o 5 وزراء لديهم خلفية شرعية (21.74%)، وهي نسبة مرتفعة نسبيًا في دولة يُفترض أن تكون مدنية.
- التكنوقراط: يشغلون الوزارات غير السيادية، بينما المناصب الفعلية بيد القوى المسيطرة.
تاسعًا: الخريطة السياسية لسوريا بعد الأسد
المنطقة القوة المهيمنة مستوى التمثيل
إدلب: HTS، مرتفع (سيادي)
الحسكة والرقة: SDF، غائب
دمشق: تكنوقراط حكومي، جزئي
السويداء: قوى محلية درزية، جزئي
درعا عشائر ومحليين: غائب
اللاذقية: تيارات مدنية محدودة، جزئي
دولة بلا مشروع وطني… لكنها لا تزال فرصة
رغم سقوط الأسد، لم تُبنَ دولة جديدة بعد. بل نحن أمام إعادة تموضع لقوى الأمر الواقع بلباس مدني وشعارات وطنية، دون مسار سياسي جامع أو تعاقد اجتماعي جديد. تهيمن هيئة تحرير الشام على مفاصل القرار، ويحضر النفوذ الخارجي من بوابات الإعلام والدين، وتغيب القوى الوطنية السياسية والمدنية عن الصورة تمامًا.
هذه الحكومة تمثل استمرارية للمشكل السوري لا حلاً له. إنها حكومة السلطة لا حكومة الوطن، وأقصى ما تصبو إليه حتى الآن هو إدارة الأزمة لا تجاوزها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل العيوب البنيوية، والشرعية المهزوزة، والتمثيل الناقص، فإن ذلك لا يعني مقاطعة هذه الحكومة أو تجاهلها.
بل على العكس، يُفترض بجميع السوريين، من الداخل والخارج، أن يتعاونوا من أجل إنجاح المهام المعلنة، والضغط المستمر باتجاه تنفيذ ما تم التعهد به في مراسم القسم من وعود تتعلق بالعدالة، والمساءلة، والتمثيل.
ففي نهاية المطاف، السوريون – بجميع انتماءاتهم – على متن قارب واحد، وغرق هذا المركب لن يُغرق طرفًا دون آخر، بل سيغرق الجميع.
دعوة للعمل السياسي في سورية
المزيد
يقول “نيكولاس بولانتزاس” في كتابه “السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية” أن جهاز الدولة البورجوازية، على الصعيد السياسي، لا يقف أمام المواطنين على اعتبارهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات كما ينص القانون، بل على اعتبارهم ذوات من المحتمل أن تمارس السياسة وقد تسعى لتغيير الوضع القائم. هذا على عكس مهمتها كدولة بورجوازية هدفها الحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاجه. ولذلك تسعى الدولة جاهدة لإيقاف هذه الذوات السياسية المحتملة عن تحقيق التغيير من خلال إفراغها من أي محتوى سياسي معارض للوضع القائم أو العمل على إعدام الحياة السياسية في بعض الحالات (في حالات الدولة الاستثنائية كالفاشية والديكتاتوريات العسكرية). ولذلك تقوم الدولة البورجوازية باستخدام عدة أدوات لتحقيق ذلك نختزلها بأداتي الإخضاع والإقناع. ولشرح أداتي الإخضاع والإقناع سنبقى مع بولانتزاس ولكن في كتاب آخر هو “الإيديولوجية والسلطة – نموذج الدولة الفاشية” حيث يرد فيه أن أداة الاكراه يتم استخدامها عن طريق البوليس والجيش. أما الإقناع فقد يتم عن طريق تدجين المجتمع إما من خلال السياسة كمحاولة الدولة تسييس المواطنين بما يتوافق ومصلحتها في الحفاظ على الوضع القائم أو من خلال السيطرة على الأحزاب السياسية المعارضة واحتوائها ومن ثم التنسيق معها من خلال إنشاء تحالفات مقابل تقديم رشوة لها من خلال توزير بعض الأعضاء أو تقديم مقاعد مضمونة في البرلمان. أما على الصعيد الإيديولوجي فيتم استخدام كل الوسائل المتاحة من الإعلام والصحافة ودور النشر وصولاً إلى التلفزيون والسينما بغية تعزيز الوضع القائم وتكريسه أو بغية إيصال رسالة مفادها بأن لا فائدة ترجى من أي عمل سياسي معارض. أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي فيذكر “برهان غليون” في كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” أنه يتم عادة تضخيم الطبقة الوسطى من خلال تنمية محدودة تعزز تلك الطبقة. ويتم تضخيمها من خلال تضخيم جهاز الدولة البيروقراطي بهدف تحويل جهاز الدولة إلى مصدر رزق لتلك الطبقة وبالتالي فإن الطبقة الوسطى ستميل نحو الاستقرار وستتحول معارضتها إلى سياسة إصلاحية فقط.
في دولة البعث السورية كان النظام يمارس تلك الممارسات بدءاً من العنف والاعتقال والترهيب والتعذيب …إلخ وصولاً إلى محاولات الإقناع التي كانت تتم عن طريق احتواء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية والتنسيق معها مقابل توزير بعض السياسيين أو تقديم مقاعد في البرلمان (مجلس الشعب) أو من خلال الإشاعات التي كان يصدرها بحق الأحزاب والجماعات المعارضة ليحقق حالة نفور من هذه الأحزاب. وحتى من خلال تلك “العبارات الحكيمة” التي كانت تُمنتج في أفرع الأمن وتنتج عنها كعبارة “كل الأحزاب من حيث التنظير تبدو رائعة ولكن من حيث الممارسة فإنها جميعها سيئة” حيث نلاحظ أن هدف هذه العبارة كان تكريس الوضع القائم، لا بل إذا أردنا أن نعيد انتاج العبارة بشكل مفضوح فالعبارة كانت تقول “النظام الحالي أو غيره سيقدمان نفس الأداء ولذلك لا داعي للتغيير”. وفي المحصلة كانت نتيجة كل ما سبق إعدام الحياة السياسية السورية وإفراغ المواطن السوري من محتواه السياسي وإعدام وجوده السياسي وحرمانه من ذات فاعلة في تاريخ بلاده على مر عقود من الزمن وذلك من خلال الاخضاع والإقناع وهذا ما أثر ويؤثر في المجتمع السوري حتى اليوم.
ولكن، لماذا تخاف الدولة من العمل السياسي وما أهميته؟ باختصار شديد نستطيع القول بأن العمل السياسي يهدف إلى الاستيلاء على السلطة، أو أقله المشاركة في الحكم والسلطة وهذا ما لا تريده الطبقة الحاكمة. وللتوسع قليلا سنعود إلى بولانتزاس الذي يقتطف عبارتين من البيان الشيوعي ويحاول أن يصل من خلال تقاطعهما إلى استنتاج. العبارة الأولى تقول “إن كل صراع طبقي هو صراع سياسي”. والعبارة الثانية تقول “إن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ” ثم يصل بولانتزاس إلى نتيجة مفادها أن الصراع السياسي محرك التاريخ على اعتباره صراعاً طبقياً. ونقصد بمحرك التاريخ هنا الذوات الفاعلة في تاريخ البلاد والذوات التي تريد تحسين شروط معيشتها والتي تريد المشاركة السياسية.
يأتي كلام بولانتزاس السابق وهو يعيش في الدول المتقدمة (فرنسا). وإذا ما خرجنا من هذا الشكل العام لأهمية السياسة والعمل السياسي أينما كان، وانتقلنا بشكل خاص إلى دولة طرفية نامية مثل سورية، حيث تعتبر كإحدى أسوء البلدان في العالم من ناحية الظروف المعيشية، فمن منا لا يريد أن تتحسن شروطه المعيشية سواء إذا ما كان يعيش تحت خط الفقر أو فوقه؟ أعتقد الجميع. ولكن من منا مهتم بالعمل السياسي؟ وهنا تأتي المفارقة. إن الجميع يسعى لتحسين معيشته وهذا منطقي، ولكن ولأسباب عديدة (منها فقدان الثقة بالعمل السياسي، أو المرور بفترة إحباط عام عند الجمهور) لا يريد الكثير من الناس أن يمارس نشاطا سياسيا.
ولكن، ألا تحتم الظروف الاجتماعية التي يعيشها المواطن السوري أن يهتم بتحسين شروطه وأن يدفعه هذا الاهتمام تلقائياً إلى العمل السياسي؟
في كتابه، مبادئ أولية في الفلسفة، ينفي “جورج بوليتزر” حتمية انعكاس الشروط الاجتماعية التي يعيشها الفرد في وعيه تلقائياً. يعني ليس بالضرورة أن يعي العامل الفقير أو الفلاح الفقير سبب فقره. فالشروط الاجتماعية قد تنعكس في وعيه بشكل زائف. كأن يعي عامل فقير بأن سبب شروط حياته الاجتماعية البائسة هو ليس اضطهاده من قبل رب العمل أو الطبقة الحاكمة، بل هي قدر لا يمكن تغييره أو أنها محنة واختبار من الله. وعليه نستطيع القول إن الشروط الاجتماعية قد تقود إلى تشكيل وعي غير صحيح بالواقع. وعليه أيضاً يكون لا بد من مواجهة هذا الوعي الزائف بالوعي الحقيقي الواقعي من خلال النضال الإيديولوجي النظري للمثقفين العضويين وذلك عن طريق الحزب السياسي.
وبالنسبة لبولانتزاس، فإنه يرى أن النضال السياسي هو أرقى أشكال النضال، حيث أنه يوافق ماركس وإنجلز على ضرورة التمييز بين عدة أشكال من النضال. النضال الإيديولوجي هو النشاط التنويري والدعوة للاهتمام بالسياسة. أما النضال الاقتصادي الذي يجري داخل المعامل والمؤسسات من خلال الاحتجاجات والإضرابات، فهو النضال النقابي التعاوني من أجل تحسين ظروف عمل العمال ورفع أجورهم وتخفيض يوم العمل. ويعتبر هذا النضال مهم ولكنه قاصر عن تحقيق التغيير الاجتماعي الاقتصادي المطلوب. والنضال الآخر، وهو الأرقى ويجبُّ كل ما سبقه، وهو النضال السياسي من خلال الحزب السياسي التاريخي على اعتبار الأخير أداة التغيير الاجتماعي.
إن التاريخ تفاعل غير عكوس، ولا يمكننا العودة بالزمن إلى الوراء، وإذ نقدم هذه الدعوة اليوم إلى العمل السياسي في أجواء ملؤها الإحباط والضياع والوقوف أمام المستقبل المجهول، فذلك سعياً للمساهمة في كتابة هذا المستقبل أو التأثير فيه على قدر استطاعتنا.
مجلس الانتقال المنقوص
المزيد
تشكّل في 5 تشرين الأول/ أكتوبر أول برلمان بعد سقوط النظام الأسد، في “انتخابات” جرى التسويق لها باعتبارها “الانتخابات الحرّة الأولى منذ 6 عقود”، على الرغم من أنَّ الانتخابات البرلمانيّة التي كانت تجري سابقًا كانت بطريقة الانتخاب المباشر، اختارت السلطة هذه المرة أنْ “تنتخب هيئات مناطقية شكّلتها لجنة عليا عيّن الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع أعضاءها، ثلثي أعضاء المجلس البالغ عددهم 210، على أن يعيّن الرئيس الثلث الباقي”.
في حين أنَّ الآلية الانتخابيّة بُررت بالـ”افتقار إلى بيانات موثوقة للسكان وبعد نزوح ملايين السوريين بسبب الحرب”، فإنَّ “الافتقار إلى بيانات موثوقة” و”نزوح ملايين السوريين” لم يقفا حائلًا دون تحديد مهمة هذا المجلس بوضع دستور دائم للبلاد في نهاية فترته الانتقالية المحددة بـ”30 شهرًا قابلة للتجديد”. كما أنَّ هذا البرلمان تشكّل منقوصًا، إذ أعلنت اللجنة العليا للانتخابات أسماء 119 عضوًا، دون أنْ يشمل الأعضاء ممثلين عن محافظات السويداء والرقة والحسكة، التي سوف يمثلها 21 عضوًا في انتخابات “تُستكمل لاحقًا بقرار رئاسي”.
الشرعيّة والمسار
يشير تشكيل مجلس الشعب منقوصًا، من ضمن مؤشرات أخرى، إلى خلل بنيويّ واضح في أنَّ هذا التشكيل، أو هذه “الانتخابات”، لم يجرِ وفقًا لإجماع وطنيّ حقّ، أو بناءً على قرارات مؤتمر وطنيّ جامع. فالشرعيّة التي يستند إليها المسار الانتقاليّ جرت بالكامل من طرف السلطة من دون مشاركة فئات عديدة من المجتمع السوريّ، بدايّة من مؤتمريّ “النصر” و”الحوار الوطنيّ”، وصولًا إلى الإعلان الدستوريّ وتشكيل الحكومة ومجلس الشعب.
تصبح المراحل الانتقاليّة هشة وعرضة إلى مخاطر النزعات الانفصاليّة والعنف المستمر، لا سيّما في سياق منهك ومفتت مثل السياق السوريّ، إن لم تقم على منطق توافقيّ بين القوى السياسيّة والمدنية الفاعلة، ولم يجرِ إشراك شريحة واسعة من القوى السياسيّة والمدنيّة وتمثيلها فيها. فعادةً ما تتخذ الحكومات في التجارب الانتقاليّة مسارات إصلاحيّة قبل إجراء الانتخابات البرلمانية. تتفرع هذه المسارات إلى سياسيّ، إذ تجري انتخابات بناءً على توافق بين أطراف متنازعة؛ ومسار أمنيّ، يتطلب وضع آليات واضعة لنزع سلاح الأطراف المسلّحة كلّها وتسريح مقاتليها وإعادة إدماجهم؛ ومسار دستوريّ، يقوم على استشارات شعبيّة حقيقيّة، أي حوار وطنيّ حقيقيّ وله صلاحيات فعليّة.
في حين أنَّ الانتقال الديمقراطيّ يستلزم تفعيل حراك سياسيّ يتيح مشاركة الأحزاب التي كانت محظورة، ورفع القيود السلطويّة على حرية تشكيل الأحزاب والتجمّع، فإنَّ القرارات الوحيدة التي اتخذتها السلطة القائمة فيما يتعلّق بالهيئات والأحزاب السياسيّة كانت الدعوة إلى حلّها في حالة الهيئات، كما جرى مع هيئة التفاوض والائتلاف الوطنيّ، أو رفض التعامل مع أيّ تنظيمات بوصفها كذلك، فاقتصر التعامل مع أفراد منهم بصفتهم يمثلون أنفسهم لا غير.
تظلّ الشرعيّة القائمة إلى الآن شرعيّة “غلبة”، تقيّدها الجهات التي يستمد منها الحُكم الحالي شرعيته وسلطته -الفصائل المسلّحة- وتقودها سرديّة لا تنطوي على أيّ اعتراف بتراكم النضالات السياسيّة على مرّ عقود حُكم الأسدين، ودفع مناضلون ثمنها من أعمارهم وأرواحهم لسنوات مديدة.
مواطنون أم مكونات؟
في المؤتمر الصحفي الذي أعلن خلاله المتحدث باسم اللجنة العليا للانتخابات، نوار نجمة، أسماء الفائزين عبّر عن ملاحظته بأنَّ “بعض المكونات لم تُمثّل حسب نسبتها في مجلس الشعب ويُمكن لثلث رئيس الجمهوريّة أنْ يعوّض هذا التمثيل”، قبل أنْ يتابع لينفي وجود “محاصصة” ويشدد على أنَّ كلّ عضو في المجلس “يمثّل كلّ المجتمع السوريّ بغض النظر عن انتمائه الطائفيّ أو العرقيّ”.
يخلط السيد نجمة في تعليقه، بين منطقين في السياسة، هما منطق المواطنة المتساوية ومنطق المكوّنات، فهل نحن أمام مجلس يمثّل السوريين على اختلافهم وتنوّعهم بغض النظر عن هويات النسب والانتساب لديهم، أم أنَّنا أمام مجلس لكلّ جماعة، سواءً كانت قوميّة أو دينيّة أو طائفيّة، حصة فيه؟ لكن رئيس اللجنة العليا للانتخابات، محمد طه الأحمد، تحدث صراحةً عن اعتزام اللجنة رفع توصية إلى الرئيس المؤقت بشأن “تعزيز تمثيل النساء ]البالغة نسبتهن إلى الآن 4%[ والأقليات في الاستحقاقات الانتخابيّة المقبلة”، بما يعكس “تنوّع المجتمع السوريّ ويعزز الشمول السياسيّ”. يتضافر هذا الحديث عن “التنوّع” و”الشمول” مع خلط المتحدث باسم اللجنة بين منطقي المواطنة المتساوية والمكوّنات، ليصبح أقرب إلى مفهوم المحاصصة وخطابها.
غير أنَّ الواضح والمشترك في كلام عضوي اللجنة العليا للانتخابات العودة إلى منطق “القائد الأب” الذي يتولى بنفسه تصويب أخطاء “أبنائه” أو “يداري عيوبهم” أمام الناس، بدلًا من أنْ تكون المرحلة الحالية هي مرحلة تأسيس لنظام يختلف اختلافًا جوهريًا عمّا سبقه، نظام يعي جيدًا عذابات السوريين وآلامهم على مدار عقود، والأهم، نظام عرف بدقة منبت تلك العذابات والآلام.
المسار المعيب
في النتيجة، مع غياب الأطر الزمنيّة المحددة والواضحة للمرحلة الحالية، وعدم حصر مهام السلطات القائمة، وإصدارها قوانين وقرارات طويلة الأمد، فقد يؤدي تشكيل هذا البرلمان، ضمن هذا المسار الانتقاليّ المشوّه، إلى تعميق الانقسامات القائمة أو تكريسها، بدلًا من أنْ يكون تشكيل البرلمان هو خطوة انتقاليّة حقيقيّة من نظام إلى آخر.
ليس المجلس المشكّل منقوصًا سوى عرضًا من أعراض عديدة لخلل هو نزوع نحو التفرّد بالحُكم ومحاولة أداء دور “القائد” الحكيم الذي سوف يملأ ثغرات هذا المجلس بدلًا من التأسيس لنظام بديل يقوم على التوافق بين السوريين بوصفهم كذلك، لا بوصفهم قوميات وطوائف وملل، بحيث يشكّلون مجلسًا يعبّر حقًا عن إراداتهم وأحلامهم لا رجعة فيها إلى ما مضى.
