مؤخراً، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي ومعها الجرائد والمجلات بخبر ترشح أميركي – سوري إلى مجلس الشعب في سورية واسمه “هنري حمرة” ممثلاً عن دمشق. كان سبب كل هذا الضجيج فقط لأنه أول يهودي يترشح لمجلس الشعب منذ عام 1947. وهو في الوقت ذاته ابن آخر حاخام (يوسف حمرة) كان قد غادر سورية عام 1992. وانتشر له أيضاً فيديو كان فيه “حمرة” ينفح في “الشوفار” في كنيس يهودي في دمشق بمناسبة رأس السنة العبرية. حيث تم اعتبار ترشحه دليلاً على “سورية الجديدة”، التي تقوم على “مبدأ المواطنة والمساواة واحترام التنوع الديني والثقافي بين جميع أبنائها” كما صرح “حمرة” ذاته. هذه الواقعة دفعتني لطرح السؤال التالي: اليهود في سوريا، هل هُجّروا أم هاجروا؟
بالاستناد إلى دراسة حملت عنوان “يهود سوريا 1967 – 1974″، لكل من الدكتور صالح حسن عبدلله والأستاذ أحمد إسماعيل خليل، نُشرت في جامعة تكريت، فإن بلاد الشام لم تكن من البلاد الطاردة لليهود، بل على العكس من ذلك، كانت موطنهم الذي عاشوا فيه منذ أكثر من ألفي عام لا وبل بلاداً جاذبة لهم من بلدان أخرى أيضاً. فقد “شهد القرن التاسع عشر موجات نزوح يهودية هاجرت من أوروبا إلى بلاد الشام وخصوصاً سوريا وأطلق عليهم “الأشكناز”. وقد وجد هؤلاء صعوبة في التفاهم مع اليهود الموجودين لاختلاف اللغة بينهم. إذ يتحدث المهاجرون القادمون من أوروبا لغة اليديش، فيما يتحدث اليهود المستقرين في سورية اللغة العربية ولا يتقنون العبرية. وقد استقر اليهود بشكل عام في سوريا في ثلاث مدن رئيسية وهي دمشق وحلب والقامشلي وبلغ عددهم في مطلع القرن العشرين حوالي 50 ألف يهودي موزعين في تلك المدن. وكانوا يتمتعون بحقوقهم كاملة بما فيها ممارسات معتقداتهم الدينية وفق المادة رقم (6) من صك الانتداب الفرنسي في حينها. لكن، وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وقيام نظام “فيشي” (وهو الاسم الذي أطلق على الحكومة الفرنسية التي نشأت بعد هزيمة فرنسا أمام ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، واستمرت من عام 1940 حتى 1944) بدأ اضطهاد اليهود من قبل الانتداب الفرنسي حيث تم طرد العديد من وظائفهم كما فرضت عليهم قيود كثيرة، ولكن سرعان ما تم استعادتها بعد سقوط نظام “فيشي”. وكان قد وصل عددهم في تلك الفترة إلى حوالي 30873 يهودي.
بدأ العداء ضد اليهود في سوريا بعد يوم 29 تشرين الثاني 1947 عندما صدر قرار تقسيم فلسطين. حيث أدى ذلك إلى ردود فعل شعبية سيطرت عليها العاطفة اتجاه فلسطين وشعبها، أكثر مما هو عداء لليهود (يؤكد برهان غليون على نفس الفكرة في كتابه “المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات” ويقول إن التمايز الديني والثقافي بين الطوائف ليس هو سبب الصراع الطائفي بل المسألة سياسية والصراع في جوهر الأمر هو صراع سياسي لكنه يتم بلبوس ديني). وصل العداء ببعض السوريين إلى حدة في التعامل معهم والاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم. وما زاد الطين بلّة هو إعلان قيام دولة إسرائيل في عام 1948. ونضيف على ذلك السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين المحتلة فهاجر منهم حوالي 4500. حيث بدأ التشكيك بمدى وطنية اليهود وانتمائهم لبلادهم. وما عقّد الموضوع أكثر بعد قيام الوحدة العربية بين سورية ومصر 1958 هو رأي قادة البلاد بأن السماح لليهود بالهجرة يعني دعم توجهات الحركة الصهيونية وعليه منع اليهود من الهجرة.
على ما يبدو، لم تكن نكسة حزيران 1967 تخص العرب، فقد كانت نكسة للعرب اليهود أيضاً. فقد حدثت موجة غضب عارمة في سورية على نحو خاص والوطن العربي بشكل عام. حيث بعدما أن احتل العدو الصهيوني أراضي من سورية، انهارت العلاقات الاجتماعية مع اليهود. فأصبح لا يسمح لهم بالاتصال بالأجانب إلا ضمن إجراءات خاضعة لرقابة صارمة. إذا كانت تتم مراقبتهم عن طريق المخابرات السورية. وفرض عليهم حظر تجوال بين المدن السورية. إذ كان عليهم أخذ إذن من الأمن السوري في حال انتقالهم لمسافة أربع كيلومترات بعيداً عن منزلهم. ومنعوا من العمل في بعض الوظائف الحكومية خوفاً من العمل في الجاسوسية لصالح إسرائيل. وبالرغم من كل ما سبق لم يكن هناك أي اضطهاد ممنهج ضدهم سواء دينياً أو عنصريا.
بعد فترة وجيزة بدأت أحوال اليهود تتحسن في سورية حيث باتوا يتمتعون بكامل حقوقهم الدينية والاجتماعية والسياسية التي كفلها لهم الدستور السوري. كما سُمح لهم بتأسيس مجلسين تمكنوا من خلالهما إدارة شؤونهم. الأول: المجلس الملّي والثاني: مجلس روحي. هذا بالإضافة إلى العديد من المؤسسات الخيرية التي كانت تتلقى مساعدات داخلية وخارجية. كما أنه مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين وجد في سوريا وحدها حوالي 26 معبداً أو كنساً يهودياً. كما أنهم تمتعوا بحرية تامة في تلقي التعليم على كافة المستويات. مما يؤكد على عدم وجود استهداف على أساس ديني تجاههم.
على المقلب الآخر، قامت “إسرائيل” ووسائل الإعلام الغربية بعد انتهاء حرب عام 1967 بشن حملة دعائية ممنهجة ضد الدول العربية عامة وسوريا على نحو خاص. حيث تم اتهام سوريا بأنها تعامل اليهود معاملة عنصرية وتمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية. وعليه قامت المنظمات الصهيونية في البلدان الأوروبية بنشر هذه الدعاية ونشرها في كل مكان. وفي عام 1971 عُقد مؤتمر بهذا الشأن سُمي بـ (المؤتمر الدولي لتحرير يهود الشرق الأوسط) وفي المؤتمر مورست هذه الدعاية بقوة وشراسة.
ومن الأحداث التي أثرت بشكل كبير على عامة اليهود في سورية هي أحداث آذار 1974. فقد وقعت جريمة قتل على الحدود السورية اللبنانية راح ضحيتها أربع فتيات يهوديات شابات من حارة اليهود في دمشق، منهن ثلاث أخوات، عثر عليهن دون التعرف عليهن بسبب الاعتداء والتشويه الذي طال الجثث. حيث كن يحاولن الهرب من سوريا إلى لبنان ومن ثم “إسرائيل” عن طريق المهربين المتواجدين على الحدود بين البلدين. ولقد أثارت هذه الجريمة غضب اليهود السوريين. وعليه خرجت من حي اليهود الدمشقي مظاهرات طافت أجزاء من دمشق احتجاجا على قتل الفتيات حيث قامت السلطات باعتراضها وتفريقها على الفور. وما أجج الموقف أكثر هو حدث 11 آذار من العام نفسه حيث تم العثور على جثتين لشابين يهوديين بالقرب من الحدود نفسها. وفي 15 آذار أصدرت وزارة الداخلية السورية بيانا رسمياً تقول فيه: إن عصابة من الزبداني تتألف من أربع أشخاص (اثنان من اليهود واثنان من المسلمين) قاموا باستدراج الفتيات وقتلوهن في الزبداني ومن ثم نقلت الجثث إلى الحدود لإخفاء الجريمة.
بالرغم من بيان وزارة الداخلية، اتخذت إسرائيل من هذه الحادثة ذريعة لإشعال الرأي العام العالمي ضد سوريا. حيث تم التشكيك بالبيان الرسمي. وقام عناصر من الكنيست بتقديم طلب ينص على أن تكون معاملة الجالية اليهودية في سورية بنداً في فض الاشتباك والتسوية الإقليمية بين سوريا و”إسرائيل”. وطالبوا الأمين العام للأمم المتحدة، كورت فالدهايم في حينها، بالتدخل لإنقاذ يهود سورية وطالبوا أيضا بالضغط على الحكومة السورية لإقناعها بالسماح لليهود بالهجرة. كما نددوا بالاعتقالات التعسفية التي كانت تقوم بها حكومة دمشق بحق نساء يهوديات اتهمن بالعمالة.
وفي عام 1992 وتحت ضغوط هائلة من قبل الولايات المتحدة والمنظمات اليهودية وتحت ضغط المفاوضات غير المباشرة مع “إسرائيل” تم السماح لليهود بالسفر ولكن ليس نحو “إسرائيل” وبشكل مباشر. بل سُمح لهم بالسفر إلى كل من أوروبا والولايات المتحدة. وفي العام 1992 غادر آخر حاخام يهودي من سورية، وللمصادفة هو والد هنري حمرة المرشح لمجلس الشعب. ومن ثم لم يبق إلا المئات من اليهود في سورية.
وكملاحظة أخيرة لا بد من ذكرها، هناك بعض اليهود الذين هاجروا هجرة اقتصادية، حيث كانت هجرتهم إما بسبب الأوضاع المعيشية أو كتفضيل لفرص اقتصادية في أوروبا وأميركا.
الآن، بعد النظرة الموجزة التي قدمناها بات بمقدورنا الجواب على السؤال: هل هُجّروا أم هاجروا؟
يعتبر الباحث والمفكر جوزيف مسعد أن مسألة “طرد اليهود” وتهجيرهم هي بدعة إسرائيلية يهواها الليبراليون العرب. كما يعتبر أن إسرائيل كانت الدافع الأساسي لزيادة الرقابة الأمنية بسبب استهدافها لعملاء يهود عرب واستخدامهم لتحقيق مصالحها. يضرب مثالاً بـ “فضيحة فولان” التي جندت فيها إسرائيل يهوداً مصريين لتنفيذ تفجيرات عدة في مصر. حيث تم اثناء محاكمتهم حدوث اعتداءات على بعض اليهود بسبب هذه الفضيحة.
أما في سورية، فلا يوجد أي وثيقة تثبت ما إن كان هناك قراراً بطرد اليهود أو سياسة ممنهجة لدفعهم على ذلك، بل على العكس. وقد تكون السياسات الأمنية التعسفية المستنكرة قد شكلت دافعاً للهجرة ولكن لا يمكن اعتبارها قراراً بالتهجير. فمن هجر اليهود من سورية هم الصهاينة كون أول المضايقات كانت بعد قرار إعلان تقسيم فلسطين. و”الصهيونية” هي التي نشرت الدعايات المحفزة على الهجرة عبر منظماتها الدولية. وليس ذلك فقط، بل عملت إسرائيل على تجنيد الكثير من اليهود السوريين للعمل في خدمتها مما زاد الرقابة والتضييق الأمنيين عليهم.
إن الرأسمالية العاجزة عن حل المسألة اليهودية، والتي تمنع تطبيق الحل من خلال محاربة الاشتراكية التي وضعت حلاً لهذه المسألة، إنها وذراعها، الكيان الصهيوني، المسؤولون الأساسيون لا عن تهجير يهود أوروبا فقط، بل عن تهجير يهود العالم ككل بما فيها منطقتنا العربية وسورية بالتحديد ، تهجيرهم نحو كيان مصطنع اسمه “إسرائيل”.
