سورية العهد الجديد: عن وهم “نموذج سنغافورة” وإعادة إعمار “ألمانيا”

“إن أهم سبب هو أن الدول عقدت العزم على النمو، ولذلك فإن المشاركة في هذه العملية هي السبيل الوحيد الذي يتيح لنا فرصة توجيه هذا النمو على أفضل أسس تخدم مصالحنا”

لجنة الشؤون الخارجية في الولايات المتحدة “تقرير عن السياسة الخارجية وبرنامج الأمن المتبادل” 1957.

 

بتنا نسمع مؤخراً الكثير من المقارنات التي تتحدث عن “نموذج سنغافورة” واحتمالية تطبيقه في سورية. وعن إعادة الاعمار في “ألمانيا” واحتمال تكرار نفس التجربة في سورية. فهل تجوز تلك المقارنات؟!! وهل يجوز تقديمها كنماذج مقتطعة من السياق التاريخي التي وجدت فيه ومن خلاله؟

بداية وقبل الحديث عن ذلك لا بد لي من التأكيد على خالص محبتي وأمنياتي لبلدي الحبيب سورية وأنا أتمنى له أن يصبح أفضل من الولايات المتحدة والصين وليس فقط سنغافورة. هذا كي لا يسيء البعض فهم قولنا الذي لا يود إلا توضيح مسائل تاريخية قد تغيب عن البعض أثناء مقارناتهم.

  • مقدمة لا بد منها:

غداة انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البلشفية في روسيا، بدأ الوعي القومي والتحرري يعم العالم ككل. أما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإعلان جمهورية الصين الشعبية، كانت كثيراً من البلدان قد عزمت على تحقيق الاستقلال (حتى ولو كان استقلالاً اسمياً وليس فعلياً). كما أنها كانت قد “عقدت العزم على النمو” (كما جاء في الاقتباس) بهدف العيش بنمط حياة أرقى. وفي الوقت ذاته أيضاً، كان في الكثير من تلك الدول حركات تحرر اشتراكية تحاول الخروج ببلادها من “العالم الرأسمالي” متجهة نحو المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي ومن ثم الصين الداعمين الأساسيين لتلك الحركات. هنا وجد المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة أنه يعاني من حلفاء أوروبيين لم تلتئم بعد جراحهم التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، ورقعة جغرافية رأسمالية تتقلص تدريجيا بفعل تلك الحركات التحررية ذات الطابع الاشتراكي المعادي للرأسمالية. وعليه، ولكيلا تتسع الرقعة الجغرافية التابعة للمعسكر الاشتراكي، ارتأت الولايات المتحدة أن من أولويات المعسكر الرأسمالي العمل على شد الصف الإمبريالي المنقسم لمواجهة تمدد المعسكر الاشتراكي، والعمل على تنمية البلدان، التي أعلنت استقلالها، تنمية رأسمالية محدودة تضمن من خلالها بقاء هذا البلد في الفلك الرأسمالي، من خلال دعم الجهات والجماعات التي توالي الولايات المتحدة وتعادي الشيوعية. (هاري ماجدوف، عصر الإمبريالية).

هل كانت سنغافورة واحدة من هذه الدول؟ وماذا عن “ألمانيا” المدمرة ما بعد الحرب العالمية الثانية وإعادة الإعمار فيها؟!

 

  • عن “النموذج السنغافوري” في سياقه التاريخي

في أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، بعنوان “العلاقات الحميمية عن بعد: تاريخ الولايات المتحدة – سنغافورة، العلاقات الخارجية من 1956 إلى 1975” يحاجج الدكتور “Wei Boon Chua – وي بون تشوا” تلك المؤلفات التي ترد أسباب تلك القفزة الاقتصادية في سنغافورة لعوامل داخلية فقط (الحكم الرشيد Good Governance) ومحاربة الفساد … إلخ، ويعتبرها أسباب ثانوية. ويتهم تلك الدراسات بإهمال العوامل الخارجية التي كانت أساسية وحاسمة في تحقيق هذه القفزة الاقتصادية. فيقول مثلاً إن سنغافورة كانت واحدة من البلدان غير الشيوعية التي وضعت لها الولايات المتحدة استراتيجية ترتبط بالجوانب الاقتصادية والسياسية والدفاعية. حيث أن موقعها الاستراتيجي، ووجود حركة شيوعية في الداخل (حزب العمال الشيوعي في مالايا CPM) المدعوم من الصين، وظروف “الحرب الباردة”، والتهديد بخطر التمدد الشيوعي في منطقة جنوب – شرق آسيا الذي كان يقلق المعسكر الرأسمالي بالعموم، والحرب الأميركية – الفيتنامية وحاجة الولايات المتحدة لاستغلال أحواض المياه البحرية لتصليح سفنها (حوض الملك جورج السادس)، كل هذا جعل من سنغافورة دولة رئيسية في سياسة واشنطن الاستراتيجية المعدّة لجنوب شرق آسيا. وهذه العوامل السابقة ساعدت وبشكل رئيسي في تحقيق تلك القفزة الاقتصادية.

علي الصعيد الاقتصادي، سعت الولايات المتحدة جاهدة إلى تعزيز واستقرار نظام المُستبد “لي كوان يو” (رئيس مجلس الوزراء من عام 1969 وحتى 1990 وهو أحد مؤسسي “حزب العمل الشعبي – PAP”) من خلال ضخ الدم في الحياة الاقتصادية التي كانت ميتة وآيلة للانهيار، ما بعد الاستقلال. وتم ذلك من خلال مساعدات تم تقديمها عن طريق “مؤسسة الولايات المتحدة للتنمية – USAID” وقد كانت تتراوح المساعدات في الستينيات والسبعينيات ما بين 20 – 30 مليون دولار سنوياً. كما أن كثيراً من المساعدات كانت مساعدات تقنية معاصرة خاصة بالقطاع الخدمي كالجامعات والمشافي.. إلخ. ولولا مساعدة الولايات المتحدة، بحسب “وي”، لما بقي نظام “لي كوان يو” حاكماً، وكان ليظفر الحزب الشيوعي بالحكم.

أما على الصعيد السياسي فقد كانت الولايات تتخوف من “حزب العمال الشيوعي” المعارض، والمدعوم من جمهورية الصين الشعبية، وتخاف من أن تقوم الحركات الشيوعية المحيطة بسنغافورة بالتسلل إلى الداخل لمساعدة هذا الحزب (الحركات الشيوعية في ماليزيا وأندونيسيا) ولذلك سعت على إبقاء “لي كوان يو” في السلطة ودعمته وعززت نظامه شريطة أن يعمل على تصفية وقمع الشيوعيين في حزبه أولاً ومن ثم تصفية وقمع حزب العمال الشيوعي ذو الأغلبية الصينية (مواطنين أصلهم صيني) حيث وصل القمع إلى حد الاغتيالات. ومن بعدها تم إعدام الحياة السياسية وصارت الانتخابات الديموقراطية صورية لا تمت للديمقراطية بصلة.

على الصعيد الاجتماعي، فقد استخدم “لي كوان يو” استبداده على المواطنين لتحقيق أكبر إنتاجية ممكنة. هذا ما أدى إلى انتشار مرض نفسي بات يصيب المواطنين وهو “Burnout – Kerja Stres – الاحتراق الوظيفي” الناجم عن شدة العمل ومدته أيضاً. ووفقًا لدراسة أُجريت في 2019 من قبل منظمة الصحة العالمية (WHO) بالتعاون مع وزارة الصحة السنغافورية، فقد وجدوا أن حوالي 1 من كل 5 موظفين في سنغافورة أبلغوا عن شعورهم بمستويات مرتفعة من الإجهاد المرتبط بالعمل، وكان بعضهم يعاني من إرهاق العمل بشكل كامل. وفي دراسة أجريت عام 2021 حول تأثير العمل عن بعد بسبب جائحة كوفيد-19، أظهرت النتائج أن أكثر من 40% من العاملين في سنغافورة يعانون من مستويات مرتفعة من التوتر والإرهاق الناتج عن العمل. (الاحصائيات من الذكاء الاصطناعي CHATGPT).

  • عن إعادة الإعمار “الألمانية” في سياقها التاريخي

تذهب الأقاويل، عادة، بشكل رومانسي عند الحديث عن إعادة الإعمار في “ألمانيا” وعن دور النساء “نساء الأنقاض – Trümmerfrauen” اللواتي نظفن شوارع “ألمانيا” وأزلن الأنقاض في “ألمانيا” وعن الإرادة التي تصنع المستحيل، وعن أسباب ثانوية أخرى هدفها التعمية عن رؤية ما هو أساسي. ففي البدء، وهذا ما يغيب عن بعض المتحدثين بهذا الشأن، لم يكن هناك “ألمانيا” ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل كان هناك ألمانيتين: ألمانيا الشرقية (جمهورية ألمانيا الديمقراطية – GDR) وألمانيا الغربية (جمهورية ألمانيا الاتحادية – FRG). وكانت الشرقية تتبع للمعسكر الاشتراكي والغربية على العكس تتبع للمعسكر الرأسمالي.

ولأهميته لا بد لنا من التذكير بأن البلدان التي كانت تُصنف على اعتبارها من بلدان “الخط الأمامي – Frontline States” أو “البلدان الحاجزة – Buffer States” (البلدان التي كانت على حدود وتماس مع الرقعة الجغرافية للمعسكر الاشتراكي أو البلدان التي تفصل بين دولتين من معسكرين مختلفين) كانت هي الأكثر حظوة في التنمية الرأسمالية لتكون حاجز ردع للمد الشيوعي. ومن البلدان الأكثر حظوة بالنسبة للمعسكر الرأسمالي كانت ألمانيا الغربية. وعليه اشتعلت المنافسة ما بين المعسكرين في إعادة إعمار الألمانيتين. فقد أراد كل معسكر أن يقدم نموذجاً أفضل من الآخر ليمثل من خلاله قدرة هذا المعسكر، بالإيديولوجيا التي يحملها، على تحقيق إعادة الإعمار وتحقيق التنمية وجذب الطرف المقابل له. وعليه تم تقديم المساعدات المالية الضخمة لألمانيا الغربية، عبر خطة مارشال، لتكون نموذجاً رأسمالياً يتفوق على نظيره الاشتراكي في ألمانيا وكان ذلك بالفعل.

  • الميزة التاريخية “At arm’s length – على بعد ذراع” للبلدين.

بالعودة للأطروحة، يتحدث “وي” عن ميزة كانت قد وفرتها “الحرب الباردة” للبلدان الصغيرة الفقيرة، ألا وهي ميزة التأثير على الخطط الاستراتيجية التي تضعها البلدان الكبيرة لها، لا بل وقد تطالب بتغييرها في بعض الأحيان. أي أن البلدان الصغيرة لم تكن بتبعية مطلقة للبلدان الكبيرة. يعني: لقد كان باستطاعة بلد صغير مثل “سنغافورة”، ومن بعد إعلانه أنه من دول عدم الانحياز (أي أنه قد وقف على بعد ذراع من كلا المعسكرين)، التأثير على استراتيجية بلد كبير مثل الولايات المتحدة من خلال اللعب على حبل التهديد بالتواصل مع دول المعسكر الاشتراكي والانضمام لهم. حيث أن الدكتور “وي” يؤكد على أن تسليح جيش سنغافورة، مثلاً، تم من قبل الولايات المتحدة وتحت ضغط من قبل هذا البلد الصغير وبالرغم من رفض الولايات المتحدة، لمجرد أنهم تواصلوا مع الاتحاد السوفييتي وطلبوا تسليح الجيش.

  • هل هذه الميزة التاريخية موجودة اليوم في سورية؟

من الواضح تماماً أننا لا نعيش في زمن “الحرب الباردة”. ولا يوجد اليوم تلك الندية بين الولايات المتحدة وروسيا. وما الذي سيقنع إسرائيل بأن ترضى بأن تصبح سورية مثل سنغافورة؟! إن الطرف الوحيد الذي كان من الممكن الاعتماد عليه لكسب هذه الميزة هو الصين من خلال التلويح بالانضمام إلى بلدان الحزام والطريق (طريق الحرير). ولكن الصين حتى اليوم تعتبر الكثير من المقاتلين الأجانب إرهابيين مطلوبين لحكومتها.

إن فتح أبواب البلاد على مصراعيها للاستثمارات الأجنبية، و”الحكم الرشيد” ولبرلة الأسواق، ليست عوامل كافية لتحقيق نموذجي سنغافورة وألمانيا. فالنموذج السنغافوري والألماني (في إعادة الأعمار) لم يتحقق إلا من خلال شروط تاريخية أكسبت تلك البلاد ميزة غير متوفرة اليوم في سورية.

وكما في البداية سأقول أيضا في النهاية: لا أتمنى إلا الخير والازدهار لهذه البلاد الجميلة.

1 فكرة عن “سورية العهد الجديد: عن وهم “نموذج سنغافورة” وإعادة إعمار “ألمانيا””

  1. كل الشكر لنشر هذه المقاربة العلمية/التاريخية المهمة في هذا الوقت السوري العصيب والسرديات السطحية التي نسمعها كل يوم تقريبا ، والشكر موصول للأستاذ ملاذ على حرصه وانتباهه في ظل غياب شبه تام لهذه النوعية من المقاربات الموضوعية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *