يقول “نيكولاس بولانتزاس” في كتابه “السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية” أن جهاز الدولة البورجوازية، على الصعيد السياسي، لا يقف أمام المواطنين على اعتبارهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات كما ينص القانون، بل على اعتبارهم ذوات من المحتمل أن تمارس السياسة وقد تسعى لتغيير الوضع القائم. هذا على عكس مهمتها كدولة بورجوازية هدفها الحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاجه. ولذلك تسعى الدولة جاهدة لإيقاف هذه الذوات السياسية المحتملة عن تحقيق التغيير من خلال إفراغها من أي محتوى سياسي معارض للوضع القائم أو العمل على إعدام الحياة السياسية في بعض الحالات (في حالات الدولة الاستثنائية كالفاشية والديكتاتوريات العسكرية). ولذلك تقوم الدولة البورجوازية باستخدام عدة أدوات لتحقيق ذلك نختزلها بأداتي الإخضاع والإقناع. ولشرح أداتي الإخضاع والإقناع سنبقى مع بولانتزاس ولكن في كتاب آخر هو “الإيديولوجية والسلطة – نموذج الدولة الفاشية” حيث يرد فيه أن أداة الاكراه يتم استخدامها عن طريق البوليس والجيش. أما الإقناع فقد يتم عن طريق تدجين المجتمع إما من خلال السياسة كمحاولة الدولة تسييس المواطنين بما يتوافق ومصلحتها في الحفاظ على الوضع القائم أو من خلال السيطرة على الأحزاب السياسية المعارضة واحتوائها ومن ثم التنسيق معها من خلال إنشاء تحالفات مقابل تقديم رشوة لها من خلال توزير بعض الأعضاء أو تقديم مقاعد مضمونة في البرلمان. أما على الصعيد الإيديولوجي فيتم استخدام كل الوسائل المتاحة من الإعلام والصحافة ودور النشر وصولاً إلى التلفزيون والسينما بغية تعزيز الوضع القائم وتكريسه أو بغية إيصال رسالة مفادها بأن لا فائدة ترجى من أي عمل سياسي معارض. أما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي فيذكر “برهان غليون” في كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” أنه يتم عادة تضخيم الطبقة الوسطى من خلال تنمية محدودة تعزز تلك الطبقة. ويتم تضخيمها من خلال تضخيم جهاز الدولة البيروقراطي بهدف تحويل جهاز الدولة إلى مصدر رزق لتلك الطبقة وبالتالي فإن الطبقة الوسطى ستميل نحو الاستقرار وستتحول معارضتها إلى سياسة إصلاحية فقط.
في دولة البعث السورية كان النظام يمارس تلك الممارسات بدءاً من العنف والاعتقال والترهيب والتعذيب …إلخ وصولاً إلى محاولات الإقناع التي كانت تتم عن طريق احتواء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية والتنسيق معها مقابل توزير بعض السياسيين أو تقديم مقاعد في البرلمان (مجلس الشعب) أو من خلال الإشاعات التي كان يصدرها بحق الأحزاب والجماعات المعارضة ليحقق حالة نفور من هذه الأحزاب. وحتى من خلال تلك “العبارات الحكيمة” التي كانت تُمنتج في أفرع الأمن وتنتج عنها كعبارة “كل الأحزاب من حيث التنظير تبدو رائعة ولكن من حيث الممارسة فإنها جميعها سيئة” حيث نلاحظ أن هدف هذه العبارة كان تكريس الوضع القائم، لا بل إذا أردنا أن نعيد انتاج العبارة بشكل مفضوح فالعبارة كانت تقول “النظام الحالي أو غيره سيقدمان نفس الأداء ولذلك لا داعي للتغيير”. وفي المحصلة كانت نتيجة كل ما سبق إعدام الحياة السياسية السورية وإفراغ المواطن السوري من محتواه السياسي وإعدام وجوده السياسي وحرمانه من ذات فاعلة في تاريخ بلاده على مر عقود من الزمن وذلك من خلال الاخضاع والإقناع وهذا ما أثر ويؤثر في المجتمع السوري حتى اليوم.
ولكن، لماذا تخاف الدولة من العمل السياسي وما أهميته؟ باختصار شديد نستطيع القول بأن العمل السياسي يهدف إلى الاستيلاء على السلطة، أو أقله المشاركة في الحكم والسلطة وهذا ما لا تريده الطبقة الحاكمة. وللتوسع قليلا سنعود إلى بولانتزاس الذي يقتطف عبارتين من البيان الشيوعي ويحاول أن يصل من خلال تقاطعهما إلى استنتاج. العبارة الأولى تقول “إن كل صراع طبقي هو صراع سياسي”. والعبارة الثانية تقول “إن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ” ثم يصل بولانتزاس إلى نتيجة مفادها أن الصراع السياسي محرك التاريخ على اعتباره صراعاً طبقياً. ونقصد بمحرك التاريخ هنا الذوات الفاعلة في تاريخ البلاد والذوات التي تريد تحسين شروط معيشتها والتي تريد المشاركة السياسية.
يأتي كلام بولانتزاس السابق وهو يعيش في الدول المتقدمة (فرنسا). وإذا ما خرجنا من هذا الشكل العام لأهمية السياسة والعمل السياسي أينما كان، وانتقلنا بشكل خاص إلى دولة طرفية نامية مثل سورية، حيث تعتبر كإحدى أسوء البلدان في العالم من ناحية الظروف المعيشية، فمن منا لا يريد أن تتحسن شروطه المعيشية سواء إذا ما كان يعيش تحت خط الفقر أو فوقه؟ أعتقد الجميع. ولكن من منا مهتم بالعمل السياسي؟ وهنا تأتي المفارقة. إن الجميع يسعى لتحسين معيشته وهذا منطقي، ولكن ولأسباب عديدة (منها فقدان الثقة بالعمل السياسي، أو المرور بفترة إحباط عام عند الجمهور) لا يريد الكثير من الناس أن يمارس نشاطا سياسيا.
ولكن، ألا تحتم الظروف الاجتماعية التي يعيشها المواطن السوري أن يهتم بتحسين شروطه وأن يدفعه هذا الاهتمام تلقائياً إلى العمل السياسي؟
في كتابه، مبادئ أولية في الفلسفة، ينفي “جورج بوليتزر” حتمية انعكاس الشروط الاجتماعية التي يعيشها الفرد في وعيه تلقائياً. يعني ليس بالضرورة أن يعي العامل الفقير أو الفلاح الفقير سبب فقره. فالشروط الاجتماعية قد تنعكس في وعيه بشكل زائف. كأن يعي عامل فقير بأن سبب شروط حياته الاجتماعية البائسة هو ليس اضطهاده من قبل رب العمل أو الطبقة الحاكمة، بل هي قدر لا يمكن تغييره أو أنها محنة واختبار من الله. وعليه نستطيع القول إن الشروط الاجتماعية قد تقود إلى تشكيل وعي غير صحيح بالواقع. وعليه أيضاً يكون لا بد من مواجهة هذا الوعي الزائف بالوعي الحقيقي الواقعي من خلال النضال الإيديولوجي النظري للمثقفين العضويين وذلك عن طريق الحزب السياسي.
وبالنسبة لبولانتزاس، فإنه يرى أن النضال السياسي هو أرقى أشكال النضال، حيث أنه يوافق ماركس وإنجلز على ضرورة التمييز بين عدة أشكال من النضال. النضال الإيديولوجي هو النشاط التنويري والدعوة للاهتمام بالسياسة. أما النضال الاقتصادي الذي يجري داخل المعامل والمؤسسات من خلال الاحتجاجات والإضرابات، فهو النضال النقابي التعاوني من أجل تحسين ظروف عمل العمال ورفع أجورهم وتخفيض يوم العمل. ويعتبر هذا النضال مهم ولكنه قاصر عن تحقيق التغيير الاجتماعي الاقتصادي المطلوب. والنضال الآخر، وهو الأرقى ويجبُّ كل ما سبقه، وهو النضال السياسي من خلال الحزب السياسي التاريخي على اعتبار الأخير أداة التغيير الاجتماعي.
إن التاريخ تفاعل غير عكوس، ولا يمكننا العودة بالزمن إلى الوراء، وإذ نقدم هذه الدعوة اليوم إلى العمل السياسي في أجواء ملؤها الإحباط والضياع والوقوف أمام المستقبل المجهول، فذلك سعياً للمساهمة في كتابة هذا المستقبل أو التأثير فيه على قدر استطاعتنا.
