حول مشكل الأقليات وخصوصيته ضمن السياق السوري

اسهام في مشكل الأقليات – نايف سلّوم
ينطرح مشكل الأقليات القومية، الإثنية والدينية عندما يتعرقل مشروع بناء الأمة أو مشروع بناء الأغلبية الاجتماعية السياسية
الأوضاع الإمبريالية هي المسؤول الأساسي عن هذه العرقلة وهذا الانسداد في الأفق التاريخي الاجتماعي، بالتالي الطائفية ليست صفة جوهرية للثقافة الدينية، إنما هي استغلال التنوع الثقافي والقومي من قبل نظام سياسي قائم على قاعدة اجتماعية ضيقة، نظام ملحق بالنظام الامبريالي يكرّس بوجوده التبعية والتخلف، بالتالي يعمل على تأبيد العلاقة الكولونيالية كعلاقة تبعية عضوية بالإمبريالية وصورة تخلف
علينا أن نحدد مستويين في طرح مُشكل الأقليات:
المستوى الأول يخص الأقلية القومية معرفة بالتقابل مع الجماعة القومية العربية والتي تشكل الأغلبية السكانية في الأرض التاريخية للعرب. كالبربر في المغرب العربي والكرد في سوريا والعراق. وهذه الاقليات القومية نشطة سياسياً وحيّة. وأقليات قومية معرفة بذاتها على شكل إثنيات خامدة كالأرمن والشركس والسريان والآشور والكلدان وغيرهم من الأقليات الخامدة سياسياً.
يدخل وضع الأقلية القومية الكردية في شمال شرق سوريا في سياق الأقلية القومية الطارئة حيث تتمتع بحقوق ثقافية، عندما عبر الكثير من هؤلاء الحدود التركية السورية مطلع القرن العشرين. وهذا الامر سجالي بطبيعة الحال.
المستوى الثاني من مستويات مقاربة مشكل الأقليات هو حق المواطنة المتساوية، أي التعامل مع جميع رعايا الدولة الواحدة كأفراد متساويين في الحقوق المدنية والسياسية ومتساوين في الواجبات
في مفهوم المواطنة نشير إلى أن المواطنة تعني المساواة في الحقوق والواجبات الاجتماعية وإلى المشاركة من الناحية السياسية وبهذا المعنى تكون المواطنة توأم الديمقراطية السياسية. المواطنة للجميع بغض النظر عن التصنيف القومي أو الديني أو الاثني
لا يتعزز الانتماء الحق إلى الوطن كهيمنة سياسية لطبقة أو تحالف طبقات من دون تكريس حق المواطنة، ومعها الديمقراطية السياسية. بالتالي يمكن القول إن معيار وطنية أي طبقة مسيطرة ومهيمنة هو ديمقراطيتها السياسية، وعدالتها في توزيع الثروة الوطنية
هناك تحديد اجتماعي (سوسيولوجي) للأقليات وهي الأقليات الدينية كالمسيحية على تنوعاتها، واليهودية العربية والأقليات الإسلامية كـ الدروز والعلوية والإسماعيلية وغيرها. وهذه الفرق الدينية هي بقايا متكلسة “لأحزاب سياسية” من العصر الإسلامي الوسيط انغلقت على نفسها ثقافياً فتكلست. وهي معرفة كأقلية بالتقابل مع الأغلبية السنية في العصر الوسيط وسوف نعالج هذه المسألة في مستوى حق المواطنة لما لتفجر هذا المشكل من علاقة بإحباط التحديث العربي بكل أشكاله التاريخية الفعلية، وفشل البورجوازية الطرفية التابعة بكل أشكالها التاريخية في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية والمواطنة المتساوية.
لقد أدت قيادة البورجوازية في الأقطار العربية بكل أشكالها، التقليدية الليبرالية المدينية [أعيان المدن السورية، والملاك العقاريين في مصر كأمثلة]، والصغيرة والمتوسطة المدينية والريفية منها إلى إعادة إنتاج أشكال من العلاقات الاجتماعية والانتماءات ما قبل الرأسمالية كالطائفية والعشائرية وإلى نوع من الولاءات العائلية والطائفية، وإلى الزبائنية
بهذا الشكل يعيد النظام الرأسمالي الطرفي التابع الكولونيا لي، إنتاج نفسه، بحكم أزمته التاريخية، وعصبويته وتبعيته للمراكز الرأسمالية كنظام طائفي. والطائفية بهذا المعنى هي شكل تمظهر النظام السياسي الكولونيا لي أو الرأسمالي الطرفي التابع.
من موقع النظر البورجوازي، يظهر هذا النظام لجماهير الكادحين الواقعين تحت سيطرة الأيديولوجية السائدة كنظام طائفي وليس نظاماً كولونيا ليا (مهدي عامل “مدخل إلى نقض الفكر الطائفي)
“إن الانسداد الذي عبر عنه النظام [العربي] الحديث في شكله الليبرالي أولاً، ثم في شكله الحكومي المدوّل (رأسمالية الدولة البورجوازية الطرفية) ثانياً هو الذي يهدد اليوم بعودة الشكل القديم للصراع لغة وتنظيماً ” (برهان غليون: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات). أي إعادة الاعتبار لخطاب الكراهية الطائفي وتسيس المسجد وازدهار ظاهرة الحزب السياسي الديني. ليس هذا الانسداد حقيقة سوى التعبير المنطقي عن العجز التاريخي للنظام الكولونيالي كنظام رأسمالي طرفي تابع، بحكم طبيعة ولادته التاريخية التي تزامنت مع المرحلة الإمبريالية في الرأسمالية، والتي هي أي الإمبريالية تيار مضاد للميول “الطبيعية للرأسمالية ” نما هذا التيار بحكم الأزمة العامة للرأسمالية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وعلى أرضية النمو السياسي والتاريخي للبروليتاريا الأوربية. إن الكولونيالية كنظام رأسمالي طرفي تابع هو الوليد المسخ للنظام الإمبريالي الرأسمالي، وهو الشكل المشوّه لتوسع النظام في أصقاع العالم.
يحتل المستوى القومي في تحديد مفهوم الأقلية امتيازاً على أرضية تحدّيه للكولونيالية الرأسمالية نهاية القرن التاسع عشر بالنسبة للمنطقة العربية. ولهذا التحدي غرضان، الأول التعبير عن استجابة حديثة بحجم التحدي الكولونيالي الرأسمالي، والثاني متطلبات التحديث الاجتماعي الاقتصادي والسعي لبناء السوق القومية وإنجاز التصنيع. ومن دون ذلك تبقى الاستجابة ومواجهة الغزو الامبريالي سطحية وعاجزة.
لقد استطاعت القوى الاستعمارية اجتياح الولايات العربية على أرضية تفوق نمط الإنتاج الرأسمالي على الانماط ما قبل الرأسمالية كـ التشكيلات الآسيوية الخراجية في المشرق العربي. إن أثر هذا الغزو في البنى المحلية هو ما يمكن تسميته بالخصوصية العربية. يتطلب عقل هذا الجدل نقداً جذرياً للبنى المتخلفة، وتبني خيار تاريخي لبناء التحديث العربي وتمكين الدولة الوطنية الديمقراطية التي تقوم على قاعدة اجتماعية شعبية عريضة.
يمكن أن نشير هنا إلى الرابط الذي أعلنته الأحزاب الاشتراكية العقائدية، كالبعث والاتحاد الاشتراكي العربي، بين تجاوز الطائفية من جهة والاشتراكية من الجهة الثانية ، إنها كلمة حق يراد بها باطل ، حيث تبين أن الاشتراكية المقصودة كانت اشتراكية عقائدية أو اشتراكية فظة حسب تعبير لماركس في البيان الشيوعي ، وهي تقوم على أساس تحويل في التوزيع لا على أساس تحويل في علاقات الإنتاج الرأسمالية الكولونيالية، أي أن هذا “التحويل” يبقى في دائرة الملكية الخاصة الرأسمالية وبالتالي يُبقي على التبعية، ويعيد هذا “التحويل ” إنتاج العلاقة الطائفية كعلاقة كولونيالية، أي كتمظهر أيديولوجي وسياسي لسيطرة الرأسمالية الطرفية التابعة الرثة. لقد قايضت هذه البورجوازية الطرفية “الاشتراكية القوموية الفاشية” التوزيع الاقتصادي المؤقت بالديمقراطية السياسية، حيث احتفظت لنفسها بحق النشاط السياسي عبر حزبها الوحيد وحرّمت ذلك على الشعب الكادح المظلوم بعد أن صادرت نقاباته.
السلفية الدينية مهزومة سلفاً لأنها تشبه محطمي الآلات، وهي لذلك تخرج التحديث العربي من حساباتها، وتخرج شكل الملكية أيضاً، إنها ردة فعل دوغمائية تجاه الغرب الإمبريالي، ردة عاطلة ورجعية موجهة نحو ماض ولّى زمنه. وقد استغل الغرب ردة الفعل هذه لتوجيهها بشكل مضاد.
تصنف الأقليات السوسيولوجية على أساس ديني أو إثني عندما لا تميل للتعبير عن نفسها سياسياً أي عندما لا تعبر عن نفسها عبر تشكيل الأحزاب السياسية.
هذا التصنيف ظاهري وانتروبولوجي وضعي وغير نقدي يتعامل مع الفرق الدينية وكأنها ما تزال تعيش شرطها في النمط الآسيوي الخراجي للإنتاج وضمن سيادة الدين الإسلامي كمهيمن على جميع مناحي الحياة الاجتماعية الاقتصادية، ويتعامل مع الطائفية كخاصية جوهرية للفرقة الدينية الموروثة. لكن مع هيمنة الأوضاع الإمبريالية في المراكز الرأسمالية والتي تعبر عن نفسها على شكل علاقات كولونيالية في أطراف النظام الرأسمالي ينقلب الوضع وتغدو الطائفية شكل تمظهر النظام الكولونيالي والعلاقة الكولونيالية، وتغدو الطائفية استثماراً سياسياً لنظام بورجوازي تابع خسر الكثير من قاعدته الشعبية.
بمجرد تعبير الفرقة الدينية عن نفسها سياسـياً تكون قد دخلت في التصنيف القوموي/ السياسوي، أي دخلت على خط الطموح للاستيلاء على سلطة الدولة. ومثال ذلك الأقلية اليهودية التي تبنت وجهة نظر الحزب الصهيوني. والصهيونية طائفية بهذا المعنى وعصبوية، فهي وضع إمبريالي، أي مرتبطة عضوياً بالظاهرة الإمبريالية، يكتب الدكتور أميل توما ” كانت أيديولوجية القومية البورجوازية التقدمية قد تحولت، في أوربا في نهاية القرن التاسع عشر، وقت ظهور الصهيونية، إلى أيديولوجية التوسع الإقليمي على حساب الشعوب، وبهذه الأيديولوجية اقترنت الصهيونية لا بغيرها ” (جذور القضية الفلسطينية). لقد سخّرت الصهيونية الدين اليهودي لخدمة السياسة، حيث استغلت “اضطهاد الأقليات القومية لخدمة السياسة الإمبريالية الرامية إلى تأمين سيطرتها ” (على المنطقة العربية) (راجع: الأممية الشيوعية والثورة العربية، الكفاح ضد الإمبريالية، الوحدة، فلسطين، وثائق 1931 ترجمها وقدم لها الياس مرقص) وبالتالي يقوم وجودها على إنكار الطوائف الأخرى. ومن هنا فهي “قومية” دينية رجعية وليست مشروعا قومياً ديمقراطياً يهدف إلى تجاوز نظام الطائفية السياسية كنظام كولونيالي وبناء الأمة بالمعنى التاريخي والمتقدم
مثال آخر للأقلية السياسوية أو الجماعات العصبوية الجماعات الدينية الإسلامية التي شكلت أحزابها السياسية كالجماعات الإسلامية المتحزبة السنية والشيعية والمسيحية كالمارونية السياسية. أي التي عبرت عن وجودها الاجتماعي سياسيا لا ثقافيا. وعلى هذا الأساس تتوجب معاملة الجماعة الدينية السياسية على أساس برنامجها السياسي لا على أساس معتقدها الاجتماعي الديني أو تميزها الثقافي كفرقة دينية. أي يتم إخضاع هذه البرامج السياسية والحزبية للنقض والتفنيد. ويكون الموقف التكتيكي منها على أساس نتائج هذا التفنيد. كما تعامل من ناحية منهجية على أساس عصبويتها وطائفيتها والتي تحمل مفارقة تاريخية في وجودها كجماعة سياسية. فهي تدعو لتجاوز الوضع السائد ولو لمصلحتها، لكنها بعصبويتها وطائفيتها تكرس السائد وتعمقه، فهي عقبة ذاتها في دعوتها لتجاوز ما هو قائم. لكن يفترض أن نشير إلى أن العصبوية السياسية وضيق القاعدة الشعبية هي شكل للنظام البورجوازي الطرفي التابع عموماً، والذي بدوره يشير إلى طور أزمة البورجوازية كطبقة عالمية في المراكز وفي الأطراف. بالتالي تكون السلفية الدينية التكفيرية ومنها الإسلامية أحد تمظهرات أزمة النظام الإمبريالي الرأسمالي القائم. حيث تعبر هذه الأزمة عن نفسها بتحول الحقل الثقافي إلى حقل أيديولوجي وبالتالي تحول الفرقة الدينية إلى حزب سياسي، بحيث تنخرط الفرقة الدينية في الصراع الاجتماعي كأحزاب سياسية دينية، مكرسة بذلك إعادة انتاج النظام الطائفي الكولونيالي
تتساوى الجامعة الإسلامية (الخيار الإسلاموي) مع الجامعة القومية البورجوازية (الخيار القوموي) في طرحهما المربك والمفارق لمسألة الأقليات. فالجامعة الإسلامية تنبذ بحكم تعريفها نفسه غير المسلم، والجامعة السياسية القوموية [ذات النزعة الاشتراكية القومية الفاشية] تنبذ بحكم تعريفها الأقليات القومية الأخرى. الأولى تتبنى الشرع الإسلامي حاكماً للدستور بينما الثانية تتبنى علمانية تلفيقية واحتكاراً اقتصاديا واستبداداً سياسياً (حكم الحزب الواحد) وتهميش قومي. يقول المستشار طارق البشري ” إن القصور النظري في الفكر الإسلامي السائد، بالنسبة لتحقيق المساواة التامة للأقليات غير المسلمة، قد يقابله قصور نظري مماثل في الفكر القومي بالنسبة للأقليات القومية غير العربية في الوطن العربي” (“في المسألة الإسلامية المعاصرة بين
الإسلام والعروبة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *