بعد فوز دونالد ترامب مجددًا ووصوله إلى البيت الأبيض في يناير 2025، بدا أن صفحة جديدة تُفتح مع أنقرة. لكن ذاكرة السنوات السابقة لا تُمحى بسهولة. ففي فترته الأولى، كانت علاقة إدارة ترامب بحكومة العدالة والتنمية، بقيادة رجب طيب أردوغان، حافلة بالتناقضات. من أزمة القس الأمريكي أندرو برانسون، إلى العقوبات المفروضة على خلفية صفقة صواريخ S-400 الروسية، مرورًا بالدعم الأمريكي المتواصل لقوات سوريا الديمقراطية، كانت العلاقة بين الطرفين أقرب إلى عضّ الأصابع منها إلى التحالف.
ومع ذلك، فإن ما يطفو على السطح اليوم يُظهر لهجة مغايرة. فالتصريحات الأخيرة الصادرة عن البيت الأبيض تُظهر قدرًا لافتًا من الود تجاه أنقرة، بل وتُبدي استعدادًا لاستئناف صفقة الطائرات F-16 ورفع بعض العقوبات. لماذا إذًا هذا الانعطاف المفاجئ؟
تقاطعات المصالح.. وضرورات المرحلة
لا يمكن قراءة التقارب التركي–الأمريكي بمعزل عن التغيرات الحاصلة في الإقليم. فمع سقوط نظام بشار الأسد أواخر 2024، وتولي أحمد الشرع (الجولاني سابقًا) الحكم، أعيد فتح الملف السوري على طاولة الحسابات الدولية. وأمام هذا التحول، برزت أولويات جديدة: محاربة التنظيمات الجهادية التي ما زالت تنشط في البادية السورية وشمال غرب البلاد، وتهيئة الأجواء لإعادة الإعمار، وإخراج إيران من المعادلة السورية بهدوء.
هنا بالذات تبرز تركيا، ليس كحليف مثالي، بل كشريك لا غنى عنه. جغرافيًا، تمسك مفاتيح الحدود الشمالية لسوريا. استخباراتيًا، تملك قنوات اتصال مع قوى الأمر الواقع في إدلب. سياسيًا، باتت قادرة على إدارة التوازنات دون استثارة الغرب كما في السابق.
تحالف دولي بمفهوم جديد
تشير عدة مؤشرات إلى أن هناك توجهًا دوليًا، برعاية أمريكية، نحو إنشاء تحالف غير معلن لمواجهة الفصائل الجهادية في سوريا، لا سيما بعد توقيع اتفاق بين حكومة الشرع وقوات سوريا الديمقراطية برعاية أمريكية، وتشكيل قوة عسكرية خاصة تابعة للشرع لتنفيذ “مهام أمنية دقيقة”.
الولايات المتحدة لا تريد تكرار نموذج الحرب المفتوحة ضد داعش، بل تسعى إلى تفكيك هادئ وممنهج للجماعات المتطرفة عبر أدوات محلية. وتُركيا، التي كانت تتهم في الماضي بدعم هذه الفصائل أو غضّ الطرف عنها، تبدو اليوم إما شريكًا استخباراتيًا، أو على الأقل طرفًا ملتزمًا بالحياد.
ما وراء الصفقات
عرض واشنطن استئناف صفقة الطائرات ورفع بعض العقوبات ليس مكافأة لتركيا، بل جزء من مقايضة أوسع. فإدارة ترامب الثانية تريد تقليص وجودها العسكري المباشر، وتعتمد على حلفاء محليين لتأمين مصالحها. كما أنها تسعى إلى تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، ومنع انجراف أنقرة أكثر نحو موسكو وبكين.
يضاف إلى ذلك أن العلاقة بين ترامب وأردوغان، رغم كل المطبات، لم تنقطع. بل إن ترامب كان من القادة القلائل الذين خاطبوا أردوغان بلغة الند لا الوعيد. هذا البُعد الشخصي لا يمكن استبعاده من الحسابات.
ما بعد النيوليبرالية: انكفاء استراتيجي لا مواجهة مباشرة
في سياق أوسع، يُمكن فهم هذا التوجه ضمن ما يمكن تسميته بسياسة الانكفاء الأمريكي في المرحلة “ما بعد النيوليبرالية”، حيث تميل الحكومات الغربية عموماً، والإدارة الترامبية على وجه الخصوص، إلى التركيز على الداخل والانكفاء عن مغامرات الخارج. هذا التوجه يستبعد احتمالية أن تُقدِم الولايات المتحدة على تنفيذ ضربات عسكرية واسعة النطاق ضد إيران، أو الدخول في مواجهات مباشرة جديدة في المنطقة.
ومن هذا المنظور، لا يبدو أن التقارب التركي–الأمريكي يأتي تمهيدًا لحرب إقليمية، بل يدخل ضمن استراتيجية تسليم الملفات الساخنة إلى الحلفاء المحليين. الاتفاق الأخير بين مظلوم عبدي وأحمد الشرع، برعاية أمريكية، يدعم هذه القراءة؛ إذ يبدو أن واشنطن تمهّد لتسليم الملف السوري تدريجيًا لقوى محلية، مع ضمان انسحاب منظم لا يُحدث فراغًا أمنيًا.
ويأتي ذلك بالتوازي مع مساعٍ لإعادة توحيد القوى السورية المحلية، حيث تُشكّل المصالحة بين قوات سوريا الديمقراطية وحكومة الشرع خطوة محورية. غير أن العقبة الكبرى أمام هذا المسار تتمثل في المقاتلين الأجانب والفصائل الجهادية، الذين يشكّلون حجر عثرة في طريق أي تسوية وطنية سورية. ومن هنا تتضح أهمية الدور التركي، سواء عبر التنسيق أو عدم التدخل، لتسهيل هذا التحول دون فوضى.
لا ربط بين الداخل والخارج
في خضم هذه التطورات، من المهم نفي الربط بين ما يجري في الداخل التركي –خاصة التظاهرات المنددة باعتقال أكرم إمام أوغلو– وبين ما يظهر من ود أمريكي تجاه حكومة أردوغان. فالغرب يتعامل مع تركيا ككيان مؤسسي وجيوسياسي، لا كحزب حاكم. والتعاون الاستخباراتي أو العسكري مع أنقرة يتم بمعزل عن موقف واشنطن من ملف الحريات أو الصراع السياسي الداخلي.
الرسالة واضحة: الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عازمون على مواجهة التنظيمات الجهادية في سوريا، بالتنسيق مع تركيا، مع أردوغان أو بدونه.
في الختام
تتشكل ملامح مرحلة جديدة في العلاقة بين أنقرة وواشنطن، عنوانها البراغماتية والتقاطع المرحلي. ما يجمع الطرفين الآن ليس القيم ولا الثقة، بل الضرورة. وقد تُكتب لهذه الضرورة عمر أطول مما نتصور، إذا ما نجح الطرفان في إدارة التفاهمات دون الوقوع مجددًا في فخ الشعارات والرهانات الخاسرة.
25 آذار2025
