اختطاف صوت الطائفة: حين يعيد “بيان العلويين” إنتاج خطاب النظامين معا

صدر مؤخرًا بيان موجّه إلى المجتمع الدولي باسم “ممثلي الطائفة العلوية في سوريا”، يطالب بتدخل خارجي لحمايتهم، وصولًا إلى استفتاء لتقرير المصير وحكم ذاتي. وبعيدًا عن فحص التفاصيل القانونية أو الوقائع الميدانية، فإن المشكلة الكبرى تكمن في منطق هذا البيان نفسه، وفيما يمثله من إعادة إنتاج خطيرة لنهج النظام السوري الذي يدّعي معارضته.

من منحكم هذا التمثيل؟

البيان يبدأ بالقول إنه صادر باسم العلويين في سوريا. لكن من فوّض هؤلاء؟ هل جرى تصويت؟ هل تم التشاور مع أهالي الطائفة في الداخل والخارج؟ أم أن من كتب البيان نصب نفسه وصيًا عليهم فقط لأنه “يجرؤ” على الكلام بصوت عال؟ الحقيقة أن ادعاء التحدث باسم طائفة كاملة ليس سوى نسخة مكررة من عقلية النظام: فرض تمثيل سياسي على أساس طائفي، واحتكار الصوت، وتحويل الجماعة إلى كتلة صمّاء.

البيان ينتقد “سلطة الأمر الواقع” الجديدة لأنها تأخذ أهالي الساحل كرهائن وتحمّلهم وزر النظام السابق. وهذا توصيف دقيق. لكن المفارقة أن البيان يفعل الشيء ذاته: يأخذ الطائفة العلوية كلها رهينة لمنطقه السياسي، ويفترض أنها موحّدة خلف مشروعه، في تجاهل مشبوه لحقيقة أن كثيرًا من العلويين رفضوا الطائفية، وعارضوا النظام، وشاركوا في الثورة، وبعضهم لا يزال يدفع الثمن حتى اليوم.

استدعاء الخارج: بيع للأوهام وتوريط للطائفة

هل تعتقدون حقًا أن مجموعة تطلق على نفسها “ممثلي الطائفة” قادرة على استجرار تدخل خارجي؟ حتى في شكله القانوني؟ هذه المسارات تمر عبر قنوات دقيقة جدًا: تقارير موثّقة من منظمات حقوقية دولية معترف بها، وإجراءات قضائية أممية معقدة ضمن مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية وسواها من المؤسسات الدولية ذات الصلة، وليس عبر بيانات مغفلة بلا توقيع، تدّعي تمثيل “الرأي العام الطائفي”.

الزعم بأن بيانًا كهذا يمكن أن يغيّر قواعد اللعبة الدولية ليس إلا بيعًا للأوهام، والأسوأ من ذلك، توريطًا لطائفة كاملة بتهمة خطيرة: طلب تدخل خارجي مباشر. من يتحمل عواقب هذا التورط لاحقًا؟ من سيدفع الثمن؟ بالتأكيد ليس أصحاب البيانات، بل من نُسب إليهم التمثيل زورًا.

العدالة لا تُبنى على تكرار أدوات القمع

قد يزعم بعض المتعاطفين أن هذه الجهات تسعى للسلم الأهلي ووضع الحقيقة على مسار العدالة. حسنًا، أليس هؤلاء هم أنفسهم من زعموا تمثيل طوائفهم في زمن النظام البائد؟ ألم يصادروا رأي الشارع حينها؟ أوليس هم ذاتهم الذين تبجحوا بتأييد النظام البائد والاحتفاء بانتصاراته المزعومة؟ أوليس هم من ورطوا طوائفهم بما هم عليه الآن؟

وفي المقابل وعلى طرف المعارضة حين سعت جاهدة للترويج بأن كل مسلم هو إسلامي، وبنفس العقلية التي صادرت رأي الشارع الذي لا يجرؤ أصلا على الاعتراض بحيث اختزلت مدينة كاملة مثل إدلب في صورة “الإرهابيين” بسبب انتمائها الجغرافي، هي الوجه المضاد وليس النقيض لفئات حشرت الطوائف الأخرى في خانة “المؤيدة للنظام”. وذات التمسك بخطاب التمثيل الحصري أدخل جماعته في صراع لا مخرج منه. اليوم، يُطلب من العلويين مجددًا دفع ثمن أوهام سياسية يُراد فرضها عليهم من فوق، وباسم “الحماية” مرة أخرى. ألم نتعلم من تجربة 14 عام من الدماء أن التدخل الخارجي تسبب بكل الكوارث التي نراها اليوم؟ ثم هل توجد دولة في العالم ليست متدخلة فعليا في الشأن السوري؟ لم تقتنع؟ ألق نظرة لخارطة النفوذ الدولي والإقليمي في سورية اليوم، وحسبك هذا.

لكن هل تستطيع هذه الجهات حقًا إنقاذ من تزعم تمثيلهم؟ الجواب الواضح: لا. لأن ما يحركها ليس حماية الأرواح ولا الدفاع عن الحقوق، بل محاولة خسيسة لاستعادة موقع سياسي فقدته.

الحل الوحيد: المواطنة لا الطائفة

ما يحتاجه السوريون اليوم ليس المزيد من الأصوات التي تتحدث باسم “السنّة” أو “العلويين” أو “الدروز” أو “الأكراد”، بل من يكسر هذه الصيغة أصلًا. سوريا طحنتها الطائفية، ولن تُبنى من جديد بمنطق الحصص والتقسيم، بل بإعادة الاعتبار للفرد كمواطن، لا كعضو في طائفة.

البيان الذي يزعم تمثيل العلويين لا يمثّل إلا نفسه، وهو في الحقيقة لا يحميهم، بل يزجّ بهم مجددًا في معركة لا يريدها أحد. لا تمثلونا. فكّوا أيديكم عن الطائفة، مثلما نطالب الجميع بفك أيديهم عن سوريا كلها.

الحل الوحيد هو بناء دولة تقوم على المواطنة المتساوية، دون تفوّق طائفي أو إثني أو ديني، وسن قوانين صارمة تجرّم التحريض الطائفي والعرقي والمذهبي، وتمنع تحويل الطوائف إلى أدوات سياسية أو كتل حزبية. الطائفة يجب أن تبقى في مجالها الاجتماعي والروحي، لا أن تُختطف إلى ساحة الصراع السياسي. عندها فقط يمكن أن تبدأ سوريا طريقها نحو الاستقرار الحقيقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *